لماذا تحولت الخلافة من "الشورى" إلى "الوراثة"؟
اختار المسلمون أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- رئيساً للدولة وخليفة للرسول بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وقد كان مجيئه خليفة للرسول -صلى الله عليه وسلم- كسراً للعادات والسنة المتبعة في ذلك العصر والوقت، فقد كان السائد في الحكومات القائمة -آنذاك- أن يكون الوارث للحكم ابناً للحاكم السابق، أو أحد أفراد أسرته، والواضح أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- لم يكن لا هذا ولا ذاك.
وقد جاء اختيار أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أيضاً نتيجة شورى غير مسبوقة في التاريخ، فقد اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وتداولوا أسماء متعددة ليكونوا في رأس الدولة، ثم اختاروا أبا بكر -رضي الله عنه- ليكون خليفة للرسول، ثم أخذ البيعة بناء على هذا الاختيار والشورى، وكانت طاعة المسلمين له بعد ذلك ناتجة من كونه جاء اختياراً، وكونه جاء نتيجة بيعة ورضا من المسلمين.
لقد اعتمدت الدولة الإسلامية الشورى في اختيار رئيس دولتها -كما هو واضح- بدءاً من أبي بكر وانتهاء بعلي -رضي الله عنه، لكن الأمر تغير منذ عهد معاوية، فأصبح وراثة، إذ ورث الحكم لابنه يزيد ثم تتالت الأمور بهذه الصورة، فلماذا تغير الأمر من "شورى" إلى "وراثة"؟
لقد تعرضت الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى نوعين من المؤامرات خارجية وداخلية، وهذه المؤامرات دفعت الأمة إلى تغيير هذه القاعدة من "شورى" إلى "وراثة"، وسنتحدث عن النوعين وأخطارهما، ونتائجهما على الأمة.
أولاً: المؤامرات الخارجية:
لقد تجسدت المؤامرات الخارجية بعد وفاة الرسول بحروب الردة، فقد ارتدت بعد وفاة الرسول معظم قبائل الجزيرة العربية، وكانت تريد هذه القبائل اقتلاع الدولة الإسلامية من المدينة، وإنهاء الوجود الإسلامي. لكن قيادة أبي بكر الصديق واجهتها بموقف حازم، بأن سيرت جيوشاً متعددة بقيادة كبار الصحابة لمقاتلتهم، وقد استطاعت هذه القيادة الحازمة أن تخضعهم، وتقتلع شوكتهم، وتجعلهم يلتزمون ويطيعون قيادة أبي بكر في المدينة المنورة.
ثانياً: المؤامرات الداخلية:
أ- مؤامرة أبي لؤلؤة المجوسي:
لقد انتهت مؤامرة أبي لؤلؤة المجوسي باستشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدنية عام 23 هجرية، وقد حاك خيوطها مع شخصين آخرين هما: الهرمزان وهو أحد أمراء الفرس على الأهواز، وجفينه وهو رومي من سبي مدينة الحيرة. ليس من شك بأن اغتيال عمر بن الخطاب رضي الله عنه شكل زلزالا للدولة الإسلامية، هدد وجودها، وقطع سلسلة البناء العظيمة التي بدأ عمر بن الخطاب في إرسائها لهذه الدولة الفتية.
ب- مؤامرة عبد الله بن سبأ:
1- مقتل عثمان بن عفان:
لقد كان الدور الأكبر لعبد الله بن سبأ في إثارة المجال السياسي، فقد أثار الغوغاء حول بعض تصرفات عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد اعتمد في فتنته على تحريك أبناء القبائل المرتدة، فقد كان عماد المجموعات التي تحركت من البصرة والكوفة ومصر وذهبت إلى المدينة، وحاصرت عثمان بن عفان من القبائل المرتدة، كما كانت قياداتها من القبائل التي ارتدت في عهد أبي بكر الصديق.
وقد حدثت وقائع متعددة لا مجال للتفصيل فيها، وهي موجودة في كتب التاريخ تبين أن عدم الوصول إلى حل كان هو المقصود من الفتنة، وأن مقصدها هو زعزعة الدولة، وأبرز مثال على ذلك هو: أنه بعد أن حاور عثمان المرتدين ورد على جميع حججهم فيما يتعلق بتقريب أقاربه، وإيثارهم بالولايات والمال، وأقنعهم بنزاهته وسلامة سيرته، وعادوا إلى بلادهم: مصر، والبصرة، والكوفة.
برزت واقعة أن عثمان أرسل كتاباً إلى والي مصر بقتل المتمردين بعد وصولهم، مما جعل المتمردين يعودون ويتهمونه بنقض العهد، لكنه أنكر واقعة الكتاب نهائياً.
ولكن الواضح من قصة الكتاب، أن هناك طرفاً كان لا يريد أن تهدأ الأمور، وتنتهي إلى حل يؤدي إلى التهدئة في الدولة، لكن يريد أن تستمر الأزمة، وتنتهي إلى ما انتهت إليه وهو زعزعة الدولة، وصولاً إلى اقتلاع الدولة الإسلامية ثم اقتلاع الإسلام من الأرض، وهل هناك أكبر من قتل رئيس الدولة وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه؟!
2- واقعة الجمل:
بعد أن اجتمع المعسكران في البصرة: معسكر عائشة وطلحة والزبير من جهة، ومعسكر علي بن أبي طالب من جهة ثانية رضي الله عنهم جميعاً، وتوصل الطرفان إلى حل طرحته عائشة رضي الله عنها، وكان الغد موعد إبرامه، وعلم أصحاب الفتنة ذلك، وأيقنوا أن اتفاق الطرفين سيكون فيه خسارتهم، لذلك هجموا على الطرفين، وظن كل طرف أن الآخر غدر به وهاجمه، وبهذا حدثت "معركة الجمل"، وكان سببها الرئيسي هم أصحاب الفتنة ومثيروها.
3- مقتل علي رضي الله عنه:
استشهد الخليفة الثالث علي على يد الخوارج، مما جعل الدولة تعيش محنة ثالثة، يظهر فيها مدى قوة الأطراف التي تقصد اقتلاع الدولة الإسلامية، ثم اقتلاع الإسلام، ثم أصبح هناك رأسان للدولة بعد استشهاد علي هما: الحسن بن علي، ومعاوية، لكن الحسن تنازل عن الخلافة لمعاوية لأنه وجد أنه أقدر على المحافظة على بقاء الدولة واستمراريتها.
بعد هذه الفتن التي قتلت ثلاثة خلفاء، والتي كانت تستهدف اقتلاع الدولة الإسلامية ثم اقتلاع الإسلام، توجه معاوية بن أبي سفيان إلى "توريث" ابنه، وتجميد قاعدة "الشورى" وقد ساعده على هذا التوجه خطوتان:
الأولى – عام الجماعة: عندما تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنهما، واعتبر المسلمون هذا العام عام الجماعة، وجاءت خطوة الحسن بن علي رضي الله عنه تحقيقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه عن الحسن: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ).
الثانية – مبايعة بعض الصحابة ليزيد:
لقد بايع عدد كبير من الصحابة يزيد على الخلافة، وأقروا معاوية على توريث ابنه يزيد، وتقدر بعض هذه الروايات بأن عددهم زاد عن المائة، ولا شك أن الصحابة عندما أقروا معاوية على ذلك، أقروه لأنهم يدركون أن هذا في مصلحة استقرار الدولة، وأن البديل سيكون تهديد وجود الدولة الإسلامية، وزعزعة استقرارها، بل إمكانية اقتلاعها ثم اقتلاع الإسلام. ليس من شك أن الصحابة اتخذوا هذا الموقف نتيجة وعي متقدم في الحرص على الدولة الإسلامية.
الخلاصة: عندما تحولت الدولة الإسلامية من نظام "الشورى" إلى نظام "الوراثة" كان ذلك نتيجة وعي عميق من الصحابة بأنها خطوة ضرورية لأجل المحافظة على وجود الدولة الإسلامية، وبقاء الإسلام ذاته في سدة التطبيق، وإلا سيكون البديل هو "اقتلاع الدولة" و"اقتلاع الإسلام".
وسوم: العدد 908