إلى الإخوة المفطرين قبل المغرب، والمتسحرين بعد الصبح… الفقه المالكي وصناعة التمدُّن الإسلامي
تمهيد:
ما زلنا نسمع بأن بعض الشباب يعتقدون أن ثمة أخطاء مؤكدة لهم في أوقات الأذان، ولكنها بالنسبة للأمة أوقات صحيحة، لها مرجعيتها الفلكية العلمية، ولها أيضا مرجعيتها الشرعية، بالإضافة إلى أنها أوقات مقررة من الجهة المعتمدة في شأن أوقات الصلاة، وهي وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، ولكن هؤلاء الإخوة يجاهرون بالإفطار في غير وقته، اعتمادا منهم على روايات تزعم وجود خطأ في توقيت الغروب والصبح، ومن باب الصدع بالحق في نظرهم فإنهم يجاهرون بالإفطار مخالفين جماعة المسلمين، متابعين لما يرونه صوابا.
أولا: لا بد من اجتماع الخبرة الشرعية والفلكية لتحديد أوقات العبادة:
لمعرفة وجه الصواب شرعا في هذا الموضوع، لا بد من بيان النقاط الآتية:
1-علامات دخول الصبح، وهو الفجر الصادق، الذي يظهر ممتدا (مستطيرا) في الأفق بياضا مُشْرَبا بحُمرة.
2-لا عبرة بوجود التلال والوديان، والعمارات، بل العبرة بطلوع الصبح على المنطقة، مقدرة بأنها مفتوحة على بعضها.
3-يكون الغروب بسقوط حاجب الشمس العلوي في الأفق، وهذا السقوط مقدر أيضا بالبلد، وليس الغروب عمن يسكن في سفح جبل، أو في إحدى الطوابق السفلى أو العليا، والساكنون في أعلى البناية، كمن يسكن أسفلها، فليست العبرة بغياب الشمس عن الشقة سفلى كانت أوعليا، فهذا فارق غير مؤثر، بل العبرة بالغياب عن البلد.
4-يتعذر مشاهدة الغروب والصبح في داخل المدن بسبب ارتفاع البنيان، وقد تكون الإضاءة في المدن، معيقا آخر من رؤية هذه الظواهر الطبيعية بشكل واضح، وقد يخفى ذلك على المختصين، فكيف بمن لا عناية لهم بالفلك أصلا.
5-بناء على الضوابط الشرعية، يقوم الفلكي المختص بدراسة هذه الأوقات وغيرها من أوقات الصلوات الخمس، بناء على الضوابط الشرعية.
6-لا بد أن يكون الخبراء الشرعيون والفلكيون معروفين بأسمائهم، وخبراتهم الكافية، وأن يكون ذلك معلَنا للمسلمين، وهذا جزء من الشفافية والصدق في البيان عن الشرع، وحق للأمة لأنها هي المراقب للجميع في جميع شؤونها.
7-لا عبرة بقول كل من ليس مختصا بهذا الشأن، ولم يشهد له في ذلك من أهل الاختصاص.
8-لا عبرة بأي نقل عن غير المختصين في هذا الشأن، فالدِّين لا يبنى إلا على علم، والعلم لا يعرف إلا من جهة علمية موثوقة، وتعلن ذلك مكتوبا ومرئيا، ولسنا معنيين بأخبار القصاص الذين لا تتضح مصادرهم، وينقلون عن مجاهيل.
9-العمل بالاستصحاب، بإبقاء ما كان على ما كان وهو العمل بالتوقيت الحالي المعتمد لدى وزارة الأوقاف حتى يثبت عكس ذلك بشهادة المختصين، وتتحمل المؤسسات الدينية المختصة اتخاذ القرار المناسب بالتعديل أو عدمه، بناء على تقارير لجان الخبرة الشرعية والفلكية، وهي في ذلك مؤتمنة على دين الله تعالى.
ثانيا: ماذا يفعل الخبير الحاذق الذي تيقن خطأ التقويم الرسمي؟
1-مسألة مشابِهة في الفقه المالكي:
أ-فكما أن الشاهد الذي رأى هلال رمضان، ولم يحكم الحاكم بالصوم على رؤية ذلك الشاهد، فإنه يجب على الشاهد أن يصوم في خاصة نفسه فقط، ولا يعلن ذلك أبدا، لأن الشاهد يجب عليه أن يقدم القطع وهو رؤيته الحسِّية لهلال رمضان على قرار الحاكم الذي لم يحكم بالصيام لعدم عدالة الشاهد، لأن قرار الحاكم عندئذ ظني، والقطعي في حق الشاهد مقدم على الظني في حق الحاكم، ولكن يحرم على الشاهد الخروج على الجماعة، والمجاهرة بالصيام لأن القطعي في حقه ليس قطعيا في حق الأمة، بل الأمة تكمل شعبان ثلاثين استصحابا للأصل وهو بقاء شعبان.
ب-وكذلك الحال في حق شاهدٍ آخر رأى هلال شوال، ولم يحكم الحاكم بشهادته، وأكملَت الأمة صيام رمضان ثلاثين يوما، فإن ذلك الشاهد يحرم عليه أن يصوم، لأنه بالنسبة إليه يوم عيد قطعا، وصيام يوم العيد حرام، فعليه أن يبقى ممسكا، لا صائما، حتى لا يخالف الجماعة، ولكنه مفطر في العيد، ومحافظ على الجماعة، ولزوم الجماعة واجب من أعظم واجبات الإسلام، خصوصا في زمان الفُرقة والشقاق في الدين، الذي يظهر على بعض المسلمين هذه الأيام، ولا ينبغي للمسلمين أن يتهاونوا مع مظاهر الفرقة والشقاق، وعليهم التعويل على الإجماعات الفقهية والأصولية، لنزع فتيل الخصومة في الدِّين.
2-مراعاة سَنَن الاجتهاد في الفقه الإسلامي:
وعليه؛ فإن ذلك المجتهد في الفقه أو الفلك، إذا تبين له خطأ التوقيت على سبيل القطع، فإنه يعمل باجتهاده وبصمت، ولا يُظهِر ذلك على الناس ولا يدعو إليه، حتى لا يشق عصا المسلمين في صلاتهم وصيامهم، لأنهم معذورون عند الله تعالى في اتباع المجتهدين والخبراء الذين وضعوا التقويمات، التي تم اعتمادها على وفق أصول الشريعة، فكما أن احتمال الخطأ وارد على الجميع، إلا أن اعتماد الحاكم ممثَّلا في الدائرة المختصة حاسم للاحتمال، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، ويجب العمل بالتقويم المعتمد، وإن كان ظنيا لا قاطعا، وذلك كما لو حكم حاكم بوجوب الصيام، بناء شهادة شاهدين وهي ظنية باتفاق، فعندئذ وجب الصوم، ولا عبرة بالاحتمالات النادرة.
ثالثا: ماذا يجب على عامة المسلمين؟
1-بناء على ما سبق فإن على عامة المسلمين وجوب العمل بالتوقيتات المعتمدة من الخبرة الفلكية والشرعية،والقرار المتَّخذ من جهة المؤسسة صاحبة الاختصاص باعتماد التقويم، أما الحكايات والقصص المتداولة، فهي هدْر لا قيمة لها في دين الله تعالى، ولا يجوز لأحد من العامة بحال من الأحوال أن يخالف التقويم، سرا ولا جهرا، لأنهم متعبدون باتباع العلماء والمختصين من الفلكيين، وطاعة الحاكم فيما لم يعص الله تعالى فيه.
2-والعامة غير قادرين على تمييز الأوقات صبحا وغروبا وغيرها، وتعبدهم الله تعالى بسؤال أهل الذكر فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ويحرم على العامة متابعة الخبير المختص الذي يجب عليه العمل بعلمه في خاصة نفسه فقط، وعلى الجميع أن يعلموا يقينا أن أمتنا ليست ضالة في وقت صلاتها ولا صيامها، ولزوم الجماعة فرض من فرائض الدين، وإن تابع كل واحد من العامة رأيه في الرؤية والصلاة، فهذا يعني أن الدين الجامع لنا تم تحويله إلى سبب للشقاق في الدين، والسُّنة بريئة من هذا.
رابعا: خطأ فادح في تحقيق حكم الغروب والصبح خصوصا:
1-عندما تسمع بأن أحد الشباب في أحياء عمان المكتظة بالبناء، صعد إلى سطح البناء ليبلغ بعينيه مغرب الشمس، وما هو ببالغه، لأن ارتفاع البنيان والجبال والوديان، تمنع رؤية الأفق، ثم ينزل بعد ذلك فيفطر لأن الشمس غربت عن بيته، أو عن حيِّه، ويتوهم أن الغروب قد تحقق، فأضاع صومه لأنه تعدى على الشرع، ولم يسأل أهل الذكر، وفارق الجماعة. 2-فكانت عقوبته عاجلة في الدنيا، وهو إبطال صومه، لأن الجهل ليس عذرا، ونحن أمام حالة من الجهل تتجاوز الجهل الخاص، إلى تسفيه جماعة المسلمين، واتهامها في دينها، والتعدي عليها بالمفارقة، وفي ركنين من أركان الإسلام عظيمين، هما: الصلاة والصيام.
2-وإذا كان هذا الخطأ الفادح في الغروب الواضح، في علامته بغروب الشمس، ولكنه ظن غروبه عن حيه أو بيته، فكيف بمراقبة الصبح التي تحتاج إلى مزيد خبرة وعناية، ثم يأكل ذلك الشاب بعد أذان الصبح، مع أنه ليس من أهل التوقيت والخبرة في الأمر، وهجر جماعة المسلمين.
خامسا: لا جدلية بين الدين والسياسة عند فقهاء أهل السنة:
من الملاحظ سابقا كيف أن فقهاء أهل السنة يرتبون بيتهم من الداخل، وذلك بمراعاة أهل الاختصاص وأقوالهم في شؤونهم، فقد تم إلزام الشاهد الوحيد على رمضان بالصيام في خاصة نفسه دون إعلان، مراعاة لحالته الخاصة، وأنه متيقن أنه في رمضان، وكذلك حال الشاهد الذي أوجبوا عليه الإمساك يوم العيد، لأنه يحرم صيامه، ومراعاة لجماعة المسلمين، فحافظ الفقهاء على بالأمر بالإمساك على ما يأتي:
1-خصوصية الشاهد في نفسه، وأنه متيقن أنه في يوم عيد.
2-المحافظة على شعائر الدين بتحريم الصيام في يوم العيد، فحرموا عليه نية الصيام.
3-حراسة جماعة المسلمين.
4-عدم وضع المسلم في تناقضات الفرد والجماعة، فحافظوا على الجماعة وخصوصية الفرد معا.
5-لم يحملوا المسلم قهرا على انتهاك حرمة الشهر ويوم العيد، وعلَّموه في الوقت نفسه أن الشرع والجماعة مجتمعان لا مفترقان.
6-القضاء على الغلو في الدين، من الذين يريدون أن يبالغوا في التحري للغروب والصبح، فوقعوا في التحلل من الدين والجماعة، وأفسدوا صيامهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
7-تعتبر مخالفة الجماعة شذوذا في الدين، فقها وسياسة، وهذا الخلاف لا عذر فيه لأحد، لأنه ليس من أهل الاجتهاد، بل رد الاجتهاد المعتبر جهلا وعدوانا.
سادسا: استخدام التدين المزيف في تفكيك المجتمع الإسلامي:
فكما أن اتباع السنة ولزوم الجماعة من أوجب واجبات الدين، فإن مفارقة الجماعة هي جرس الإنذار على مفارقة السنة والجماعة، ومع الأسف فإنك تستطيع أن تصلح بين دولتين متحاربتين، وبين عشيرتين متخاصمتين في أرض ودم، إلا أن من الصعوبة بمكان أن تجمع بين المتفرقين في الدين، لأنهم يتفرقون في الدين -في ظنهم- لوجه الله تعالى، لا يريدون على فرقتهم جزاءا ولا شكورا، ذلك أن عندهم إسرافا في الجزئي الفقهي وضياعا في كليات الشريعة وإجماعاتها، لذلك كانت بعض الجماعات الدينية -مع الأسف- تعاني من الفرقة فيما بينها أشد من الفرقة بين الدول، وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) سورة الأنعام.
سابعا: الإمام الشافعي في مواجهة التفكيك:
يؤكد الإمام الشافعي رحمه الله أن معنى لزوم الجماعة هو التزام الأقوال الدينية التي التزمتها الأمة، وليس في اجتماع الأبدان في بيت العزاء، ومراكز الاقتراع والمقار الانتخابية، وجاهات الأعراس، يقول الإمام الشافعي في الرسالة:
– فما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟
-قلت: لا معنى له إلا واحد.
-قال: فكيف لا يحتمل إلا واحداً؟
-قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحدٌ أن يلزم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرقين، وقد وُجِدَت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفُجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئاً فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفُرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافةً غفلةٌ عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، إن شاء الله.
– وقول الإمام الشافعي هذا قبس من أنوار السلف، وقال مالك: (ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها) انظر: البيان والتحصيل
الطريق إلى السنة إجباري
عبد ربه وأسير ذنبه
وسوم: العدد 926