الخاطرة ٢٨٥ : علم الجمال في نقد مسلسلات رمضان ٢٠٢١
خواطر من الكون المجاور
الفن هو مهنة روحية وضعها الله في المجتمع الإنساني كنشاط روحي ليساهم في إزدهار الحضارات وتطورها والتي ينتج عنها تطور الإنسانية الروحي والمادي نحو الكمال . ورغم محاولة الفلاسفة بشكل تدريجي منذ القدم التوصل إلى تعريف دقيق لمصطلح (الفن) ، ولكن في العصر الحديث وبدلا من الوصول إلى تعريف واضح لهذه الكلمة ليعلم كل فنان ما هو دوره الحقيقي في المجتمع ، نجد الأمور قد انقلبت رأسا على عقب وخسرت كلمة (فن) معناه نهائيا . فإذا سألنا اليوم الفنانين عن تعريف مصطلح (الفن) سنجد هناك عشرات الأجوبة ، وجميعها مختلفة تماما عن بعضها البعض بخيث تجعلنا نشعر وكأن (الفن) كلمة عشوائية تسمح لكل من يعمل بمهنة الفن وبجميع أنواعه أن يفعل ما يحلو له هو شخصياً ، وكون عصرنا الحديث يعاني من انحطاط روحي نجد أن أولئك الذين يطلقون على أنفسهم فنانين بدلا من أن يسهموا في وقف استمرار الإنحطاط الروحي ، أصبحوا هم أيضا يساهمون وبقوة في تنمية هذا الإنحطاط ، ومسلسلات شهر رمضان لعام ٢٠٢١ هو أفضل مثال على ذلك .
هناك علامة مذكورة في الكتب المقدسة المسيحية تقول بما معناه أن الإنسان المؤمن في آخر الزمان يشعر بنفور من الأعمال الفنية رغم أن الآخرين يتقبلها بشكل طبيعي ، دون أن يعلم هذا المؤمن السبب الحقيقي لنفوره منها . والمشكلة اليوم أننا نعيش هذه الحالة بحقيقتها . فنجد الإحصائيات تذكر أن مسلسل فلان أو الأغنية الفلانية قد وصلت نسبة مشاهدتها إلى ١٥٠ مليون مشاهد أو أكثر خلال أيام قليلة رغم أن قسم معين من الناس ينفر أو يشتم مثل هذه الأعمال الفنية . بعضهم يشتمها كونها - حسب رأيهم - حرام لأنها معارضة لتعاليم الدين ، وبعضهم الآخر ينفر منها كونه يشعر -دون وعي- بنوع من الإشمئزاز منها فلا يستطيع متابعة مشاهدتها . فأن نبتعد عن رؤية هذه الأعمال الفنية الهابطة كونها حرام دينيا هو -اليوم - في الحقيقة أضعف أنواع الإيمان ، وأن نشعر بالنفور منها هكذا بلا وعي فهذا النوع من الإيمان هنا أرقى بقليل من النوع الأول ، ولكن أن نعرف السبب العلمي لنفورنا منها هو من أرقى أنواع الإيمان ، فهذا النوع من الإيمان هو الذي يستطيع تفسير النتائج السلبية لهذه الأعمال الفنية على المجتمع ليوضح للناس حقيقة تأثيرها في إنحطاط المجتمع ، حيث توعية الناس سيدفعهم بالنفور من رؤية هذه الأعمال ، وهذا بدوره سيجبر شركات الإنتاج عن التوقف في تقديم مثل هذا النوع من الأعمال لأنها ستجلب لهم خسائر مادية فادحة ، أما أن نقول فقط بأنها (حرام) فهذه الكلمة وللأسف لم يعد لها تأثير كما كان في العصور الماضية ، لأن كلمة (حرام) في عصر العولمة أصبحت كلمة نسبية ، فهي حرام في مجتمع معين وحلال في مجتمع آخر ، ولهذا لم تعد هذه الكلمة تهم الإنسان المعاصر . فالإنسان المعاصر لم يعد طفلا مفروض عليه سماع نصائح الكبار ، فهو قد أصبح إنسان مثقف وإقناعه بصحة أو خطأ فكرة ما يحتاج إلى دليل علمي واضح يوضح ويؤكد على سلبية وخطورة هذا النوع من الأعمال الفنية على المشاهد وعلى مجتمعه . ولعل أفضل مثال على هذا هو ما يحصل مع أعمال الممثل محمد رمضان فرغم غروره الشديد بنفسه وسلوكه الفظ في حياته الشخصية نجد أعماله لا تزال يتقبلها نسبة كبيرة من العالم العربي ، وحتى النقاد يقولون بأن سلوكه الشخصي لا علاقة له بأعماله فحسب رأيهم بأن محمد رمضان فنان يملك موهبة عالية وأنه من أفضل الممثلين . فالمشكلة الكبرى هنا هي عمى البصيرة التي تعاني منها الإنسانية في عصرنا الحديث والتي جعلت مثل هؤلاء النقاد وهؤلاء المشاهدين أن يقوموا بفصل الفن عن الواقع الذي يحصل في المجتمع رغم أن واقع المجتمع هو مرآة حقيقية عن نوعية الفن الذي يراه أفراد المجتمع وليس العكس كما يظن معظم النقاد والفنانين في محاولتهم تبرير نوعية أعمالهم الرديئة .
في مقالات ماضية (خاطرة٢٨ : خدعة قرن ال١٩ ، وخاطرة ٥٦ : الفن الجميل ، وخاطرة ١١٠: عصر بلا جمال ، وغيرها) ذكرت بشيء من التفصيل عن تعريف الفن ودوره في إزدهار وإنحطاط الحضارات ، ولكن هنا سأعيد -وبشكل مختصر- ذكر بعض المعلومات التي ذكرتها هناك لتوضيح حقيقة مسلسلات رمضان . وسأعتمد على معايير علم الجمال (الاستاطيقا) في نقد هذه المسلسلات ، فعلم الجمال هو فلسفة الفن وبدون فهم هذا المصطلح لن نستطيع فهم حقيقة معنى الفن وطريقة تأثير العمل الفني في نفوس الآخرين سواء كان تأثير إيجابي أو سلبي .
ليس من الصدفة أن أول من إستخدم مصطلح علم الجمال ( اﻹستاطيقا ) هو الفيلسوف اﻷلماني ألكساندر غوتيب بومغارتن ( ١٧١٤ -١٧٦٢) ليصف به الدراسات اﻹنسانية لتعريف الجمال. فهذا الفيلسوف كان ينتمي إلى عائلة متدينة ، فوالده وأخاه كانا من رجال الدين وهو نفسه أيضا كان عالم لاهوت . فكونه يملك الإحساس الديني والإيمان بعقيدة روحية شعر بوجود علاقة إنسجام روحية ما بين شكل ومضمون الأشياء .فالشكل ليس إلا ذلك المظهر الذي يعبر عن الروح التي تكمن في هذا الشكل . لهذا استخدم كلمة مناسبة للتعبير عن نوعية هذا الإحساس وهي كلمة (الإستاطيقا) التي مصدرها اللغة اليونانية (αισθητική) ، ورغم أن معظم نقاد الفن في عصرنا الحديث يستخدمون هذا المصطلح في شرح الأعمال الفنية ولكن للأسف يستخدمونه بمفهوم خاطئ مختلف تماما عن المفهوم الذي كان يقصده ألكسندر بومغارتن ، ففي اللغة اليونانية يوجد كلمتان تستخدمان للتعبير عن الأحاسيس والمشاعر ، الأولى هي من فعل (αισθάνομαι) ، والثانية من فعل (νιώθω) ، ولكن الفيلسوف بومغارتن اختار الكلمة الأولى ليعبر فيها عن علم الجمال بدقة تامة ، فمن هذه الكلمة تشتق كلمة (عاطفة) ، أما الكلمة الثانية فهي تستخدم للتعبير عن الأحاسيس والشعور بشكل عام وعادة تستخدم للتعبير عن الشعور الغريزي. فنقاد اليوم للأسف يستخدمون مصطلح علم الجمال بمفهوم الكلمة الثانية (الشعور الغريزي) وليس بمفهوم الكلمة الأولى (الشعور العاطفي) ، ولهذا كان نقدهم للأعمال الفنية نقد سطحي يتعلق بالشكل وليس بالمضمون . فإذا تمعنا جيدا في آراء نقاد مسلسلات رمضان نجدها مشابهة تماما لذلك الشخص الذي يصف بدقة شكل الدواء ، فنجد نقده محصور في وصف جمال القارورة أو العلبة التي تحتوي على الدواء ، وكذلك في وصف شكل الدواء ، ورائحته ولونه وطعمه ، ولكنه لا يتكلم نهائيا عن تأثير هذا الدواء على المريض فيما إذا كان له المقدرة على شفاء المريض أم لا . ولكن جوهر الموضوع هنا هو أن السبب الرئيسي لصناعة هذا الدواء هو تحقيق الشفاء من المرض وليس الإستمتاع بشكل وطعم ورائحة الدواء ، فصحيح أنه يجب الإهتمام أيضا بهذه الأشياء الثانوية ولكن الغرض الرئيسي من صناعة الدواء هو شفاء المريض وبدون تحقيق هذا الهدف فجميع تلك الأشياء الثانوية لا معنى لها . وهذه هي المشكلة الحقيقية التي تعاني منها آراء نقاد أعمال الفن في عصرنا الحديث . فهم يتكلمون عن التمثيل واللقطات وحركة الكميرا والديكور و..و.. و ، ولكنهم لا يتكلمون نهائيا عن أهم الشيء وهو تأثير هذا العمل الفني على سلوك الأطفال والشباب الذين هم مستقبل المجتمع.
اليوم نظن بأن الشيء الجميل هو ذلك الشيء الذي يؤثر بأحاسيسنا فيجذبنا نحوه. ولكن هل فعلا كل شيء يؤثر في أحاسيسنا هو شيء جميل ؟ طبعا لا ، فكما ذكرنا في مقالات ماضية أن اﻹنسان يتكون من كائنين ، كائن علوي ( عاطفي ) وكائن سفلي ( غريزي ) ، فالشيء أو الحدث الذي يُثير عواطفنا يجذبنا نحوه ، ولكن أيضا الحدث الذي يُثير غرائزنا يجذبنا نحوه . فقصة حب جميلة تثير عواطفنا وتجبرنا لمتابعة هذه القصة ، ولكن أيضا مشهد إباحي يمكن له يجبرنا على متابعة المشهد . مشهد الحب سينمي عواطفنا وسيكون له تأثير إيجابي في سلوكنا في حياتنا اليومية فهو سينمي في داخلنا عواطف الوفاء والإخلاص في الحياة الزوجية . أما المشهد الإباحي فسيكون له تأثير سلبي فهو -مثلا- سيدفع إلى تشجيع الخيانة الزوجية والطلاق . فالمقصود بكلمة (جميل) بمعناه الحقيقي هو ذلك الذي يؤثر في الكائن العلوي فقط في اﻹنسان . أما ذلك الشيء الذي يؤثر في الكائن السفلي فهو شيء قبيح.
للأسف نحن نعيش اليوم في عصر إختلط فيه الجميل مع القبيح فأصبحت معايير الجمال عشوائية لا معنى لها لذلك أصبحت تختلف من إنسان إلى آخر ، ﻷن معايير الجمال ونقصد هنا به الجمال الذي يؤثر في الكائن العلوي فقط، يجب أن تكون واحدة في جميع سكان العالم ، ﻷن الكائن العلوي في جميع أنحاء العالم له قوانين واحدة ولا تتوقف على ذوق كل شخص فهي تُعبر عن التكوين الروحي للإنسان كما خلقه الله تعالى . لتوضيح هذه الفكرة بشكل أفضل لا بد لنا في البداية شرح الفرق بين الجميل والقبيح.
الحكمة اﻹلهية في تصميم اللغة اليونانية توضح لنا المعنى الحقيقي لمفهوم الجميل ومفهوم القبيح ، فكلمة قبيح في اللغة اليونانية هي (ΑΣΧΗΜΟ اسخيمو ) ومصدر هذه الكلمة هو ( ΣΧΗΜΑ سخيما ) ومعناها ( شكل ) حيث أن إضافة حرف Α في بداية الكلمة ينفي معناها فتصبح ( عديم الشكل ) ، فكلمة قبيح هي صفة لذلك الشيء الذي لا شكل له ، وبدقة أكثر هي صفة لذلك الشيء الذي لا يوجد فيه أي علاقة إنسجام وتوافق بين شكله ومضمونه فيكون شكله عشوائي دون معنى واضح يحدد سبب وجوده.
أما كلمة جميل في اللغة اليونانية فهي( ΩΡΑΙΟ أوريو ) وهذه الكلمة مصدرها الحقيقي كلمة (ΩΡΑ أورا ) ومعناها وقت أو زمن ، فمعنى جميل هو كل شيء عندما يكون في وقته المناسب ، والمقصود هنا هو عندما تصل الأمور وتجعل عناصر تكوين الشيء في كامل إنسجامها مع بعضها البعض . فالثمرة مثلا تأخذ جمالها الكامل عندما تصل إلى أفضل مرحلة في نضجها. واﻷمر ينطبق على كل شيء في هذا الكون فكما هو معروف في علم التطور أن الحياة تطورت نحو اﻷجمل ، فالجمال يزداد مع إزدياد نسبة اﻹنسجام وكلما زادت نسبة اﻹنسجام بين عناصر شكل الشيء ، كلما كان الكائن الحي أكثر رقيا في التطور أي أكثر صلاحية للحفاظ على نفسه ضد العوامل البيئية التي يعيش فيها . يقول الله عز وجل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فتكوين الإنسان لم يحصل بشكل عشوائي ، حيث ظهور الإنسان قد حدث في نهاية تطور الحياة عندما استطاعت أعضاء الجسم المختلفة الوصول إلى أرقى أشكالها في بقية المخلوقات بشكل منفصل عن بعضها البعض ، وعندها تم جمع هذه الصفات جميعها في كائن واحد وهو الإنسان . فنجد -مثلا- شكل الأطراف الأمامية (اليد) في الإنسان مختلف تماما عن شكل الأطراف الخلفية (القدم) بينما في بقية الكائنات الحية نجد وجود تشابه كبير في شكل الأطراف الأمامية وشكل الأطراف الخلفية وكأنها لها دور واحد فقط . فشكل اليد في الإنسان وطريقة تموضع الأصابع فيها يدل بشكل واضح أنها خُلقت بهذه المواصفات لتقوم بأعمال إبداعية سواء كتابة أو صنع أعمال فنية أو اختراع أشياء مفيدة ، بينما الأقدام خُلقت بشكل مختلف عن اليد لتدل على أن دورها فقط هو حمل جسم الإنسان ومساعدته في السير والتنقل بشكل منتصب . فالإنسان كمخلوق يُعتبر أجمل الكائنات الحية كون عناصر شكله تحقق أعلى مراتب الإنسجام مع دورها الذي خلقت من أجله ، ولهذا يجب أن يكون سلوك الانسان أجمل من سلوك جميع الكائنات الحية حتى يحقق ذلك الإنسجام الذي خلقه الله بين شكله ومضمونه . فتعريف الإيمان فلسفيا هو تحقيق هذا الإنسجام ليتطابق سلوك الإنسان مع تكوينه الذي خلقه الله عليه .
علم الجمال يُعتبر جوهر اﻷبحاث الفلسفية ﻷنه يبحث في طبيعة وتطور مضمون اﻷشياء واﻷحداث ، ورغم أنه لم يشغل فكر الفلاسفة في العصور الماضية بشكل مباشر، ولكن الفيلسوف اﻹغريقي سقراط وبسبب أنه كان في بداية حياته يعمل كفنان ( نحات ورسام ) لذلك أعطى في أبحاثه الفلسفية أهمية كبيرة لمفهوم الجمال ، فهو لم ينظر إلى الجمال بمفهومه الحرفي ولكن نظر إليه كمفهوم شامل، فالجمال كان بالنسبة له هو كل شيء فيه خير وصالح لمنفعة اﻹنسان والمجتمع ، فكان يعتقد أن الجمال واﻷخلاق ليست إلا وجهين لنفس العملة ، فلا يمكن فصل الجمال عن الفضيلة ﻷن كلاهما مرتبطان ببعضهما البعض ومنهما يتم معيار فائدته للإنسان.
الفيلسوف اﻷلماني ألكسندر غوتيب بومغارتن حاول أن يوضح هذا المفهوم بشكل أفضل وكذلك فعل الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم هيجل في كتابه (إستاطيقا) ، وكانت الأمور تسير على خير ما يرام في توضيح علم الجمال ودوره في الفن ، ولكن ظهور الرؤية الماركسية جعل اﻷمور تسير بطريق مختلف تماما ، وكذلك مع ظهور تيارات الفن الحديث المختلفة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر خسر (الجمال) معناه الحقيقي وتحول إلى معنى عشوائي يسمح لكل شخص أن يعبر عنه كما يشاء .
الحكمة الإلهية في الخلق وضعت كل شيء من حولنا ضمن معايير دقيقة لعلم الجمال لنتعلم منها كي تساعدنا في فهم حقيقة تلك الروح التي تكمن في داخلنا والتي تجعلنا مخلوق بشري .
فالخنزير -مثلا - في جميع الديانات العالمية يعتبر حيوان نجس ، فرغم أن الديانة المسيحية حللت أكله ، ولكنه كمخلوق يُعتبر حيوان نجس . فإحساسنا نحو الخنزير بأنه قبيح المنظر ، هذا اﻹحساس لم ينبع في داخلنا صدفة ولكنه إحساس فطري صادق ، ﻷن الخنزير يُعتبر حيوان مخالف لقوانين التطور ، فجميع أنواع الثديات التي تأكل كل شيء ( لحم وعشب) نجدها تستطيع اﻹنتصاب على أطرافها الخلفية ، كالقرد والدببة وغيرها ، أما الخنزير فهو رغم أنه أيضا يأكل كل شيء ولكنه لا يستطيع النهوض على أطرافه الخلفية وليس هذا فقط بل رأسه المنخفض جدا ورقبته الغليظة تجعله لا يستطيع رفع رأسه لرؤية السماء ، فصفة عدم مقدرة الخنزير في رؤية السماء ليست صدفة ولكنها حكمة إلهية رمزية لها معنى أن كل من يخالف القوانين الإلهية في التطور فروحه لن تستطيع الصعود إلى السماء، أي لن يستطيع العودة إلى الجنة والتي هي الوطن الأم للإنسانية . ولهذا الخنزير يُعتبر حيوان نجس روحيا .
أما الحصان -مثلا- فنجد أن مظهره يعطينا إحساسا بنوع من الجمال فهو رغم ضخامة جسمه نجده حيوان مسالم ، حيث طبيعة تكوينه الجسدي يعطينا شعور بأن تناسق أبعاد جسمه وعضلاته القوية لم تُخلق لكي يعتدي على الحيوانات الأخرى ، ولكنها خلقت لكي يستطيع الهروب من أعداءه وكذلك لمساعدة الإنسان في أعماله اليومية . فحتى صوته نجده يوافق تماما روحه فهو رفيع ومريح للأذن كصوت الأطفال ، وبشكل عام نجد أن كل شيء في الحصان قد تطور بشكل صحيح ليلائم روحه التي تكمن داخله فحوافر أطرافه -مثلا - تحولت إلى حافر واحد لتُعبر تماما عن الرمز الروحي لهذا الكائن وهو حب الهروب كأسلوب في الدفاع عن نفسه للحفاظ على حياته . لذلك يعتبر الحصان من أجمل أنواع الثديات ، ولهذا كان أيضا أحب الحيوانات إلى قلوب فناني الرسم لذلك إستخدموه كثيرا في لوحاتهم لتزداد جمالا و روعة .
فحتى نقوم بعمل فني صحيح لا يمكن أن نستخدم الخنزير كبطل في قصص الأطفال وكأنه حيوان طيب وذكي ويريد مساعدة المستضعفين . وكذلك لا يمكننا استخدام الحصان في قصص الأطفال كحيوان شرير يريد الضرر ببقية الحيوانات الضعيفة . فإرتكاب مثل هذه الأخطاء في اختيار شخصيات القصة سيشوه فطرة الطفل في فهم العالم الروحي الذي يحيط به وسيجعله يشعر بأنه يعيش في عالم ذو طبيعة عشوائية لا معنى لها .
كل عمل فني يجب أن يُقاس بمعايير علم الجمال ، فبدون هذه المعايير سيتحول الفن الى فوضى روحية تقتل الفطرة الإلهية في الإنسان في بداية طفولته وستحوله إلى مخلوق مناقض لتكوينه الروحي . فكل شيء أو حدث يجب أن تنطبق عليه معايير الجمال ، فليس من المعقول أن يكون -مثلا- بطل الفيلم الذي يلعب دور المناضل من أجل العدالة والحقوق الإنسانية وسعادة المجتمع أن تكون ملامح وجهه شريرة ، فمثل هذا الشخص غير مناسب نهائيا لهذا الدور .وكذلك نبرة صوته يجب أن تكون مريحة للأذن ، وأن يكون طبعه وسلوكه في أبسط الأشياء في الفيلم قريبة من الإنسان المثالي شكلا وسلوكا ، وليست مشابهة لشخص بلطجي كما يحدث -مثلا- في أفلام ومسلسلات الممثل محمد رمضان فملامح وجه هذا الممثل فيها نوع من تعابير الشر ، فنجد عينه اليمنى -مثلا- تختلف عن عينه اليسرى وكأنها مصابة بضربة أو مرض ما ، فالعين اليمنى هي عين الروح ويجب أن تكون في كامل جمالها لتعطي المشاهد الإحساس بروح الخير في داخل هذا الممثل ،فوجود هذا العيب في العين اليمنى في محمد رمضان تجعله مناسب ليلعب دور الشرير أو دور الكافر ، لأن من أهم رموز أعور الدجال هو أنه أعور العين اليمنى . عدا عن ذلك نجد أن نبرة صوت الممثل محمد رمضان وكأنه يخرج من كامل حنجرته ، فهذا الصوت يعبر عن الثقة المطلقة بالنفس ، وهذه الصفة معارضة لصفات المؤمنين وصفات الإنسان المثالي ، لأن نوعية الصوت هذه تُعبر عن الغرور والتسلط وحب الذات . وإذا تمعنا أيضا في ردود فعل محمد رمضان في أعماله (افلام ومسلسلات) نجد أنها قاسية وفظة ، تجعله مناقض تماما لشخصية ذلك البطل الذي ييريد إعادة الحق لأصحابه ومساعدة الناس الغلابة . فمثلا في أحد المشاهد من مسلسل (موسى) ، نجده عندما يشتري حذاء جديد ويخرج به إلى الشارع وهو سعيد بحذائه ، يمر بقربه رجل بعمر أبيه وهو يقرأ الجريدة فلم يرى أمامه محمد رمضان ، فيدوس بقدمه على حذائه الجديد ، فتكون ردة فعل محمد رمضان على ما فعله الرجل - الذي هو بعمر أبيه - بأن يغضب فيقوم بصفعه صفعة قوية على قفاه ثم يشتمه بألفاظ قاسية . مثل ردة الفعل هذه هي ردة فعل إنسان بلطجي وليس ردة فعل شاب يُمثل بطل شعبي يسعى لفعل الخير لشعبه وبلاده كما يظهر في مسلسل (موسى) ، فمثل هذا البطل الشعبي يجب أن يحترم على الاقل سن الرجل وأن يسامحه على ما فعله . فمثل هذا السلوك الفظ في عمل فني (مسلسل تلفزيوني) يجعل هذا العمل يندرج تحت الفن القبيح وليس الفن الجميل ، لأن نتيجة هذا السلوك ستكون في النهاية إنتقال هذه النوعية من ردود الفعل إلى شباب المجتمع لتصبح عادة طبيعية في سلوكهم ، وبدلا من أن يساهم هذا المسلسل في تنمية المجتمع نحو مستوى أرقى ليجعل تعامل الناس فيما بينهم بالمحبة والتعاون والتسامح سيتحول المجتمع إلى مجتمع بلطجي حيث القوي يحصل على كل ما يشاء أما الضعيف فيعيش على هامش الحياة .
للأسف اليوم نجد أنه هناك جهل مطلق بعلم الجمال عند الفنانين بجميع أنواع الفن سواء كاتب الرواية أو المخرج أو الممثل أو مصمم الديكور أو مصمم الملابس ، ولهذا نجد أن الإنهيار الأخلاقي في جميع المجتمعات في تدهور مستمر ، وبدلا من أن تكون المسلسلات المعروضة في شهر رمضان فرصة لتنمية الإيمان والمحبة في نفوس الناس ، نجد أن شهر رمضان يتم استغلاله بأقذر الطرق لتأمين الربح التجاري لشركات الانتاج الفني وذلك عن طريق ترويج تلك الأعمال الساقطة التي تدخل بيوت الناس غصبا عنهم ، والتي مواضيعها لا علاقة لها ابدا بأجواء رمضان والصيام . فتناقض مواضيع هذه المسلسلات مع أجواء شهر رمضان هو دليل حقيقي يؤكد على الجهل المطلق الذي يعاني منه فناني اليوم في علم الجمال . فرغم وجود بعض المسلسلات التي تحاول أن تعالج بعض المشاكل الإنسانية ، ولكن المشكلة أن مثل هذه المواضيع هي أيضا غير مناسبة لعرضها في شهر رمضان .
شهر رمضان ليس شهر الصيام عن الطعام والشراب كما يظن البعض ، ولكنه شهر مقدس نزل فيه القرآن ، وهذه الحادثة هي حادثة رمزية لها معنى أن نزول القرآن يرمز إلى إكتمال الصفات الروحية التي أتت من الله عز وجل كمرحلة أخيرة من مراحل التطور الروحي للإنسانية (إنَّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق) ، لذلك فُرض الصيام على المؤمنين في هذا الشهر ، والصيام هنا له معنى الصمود أمام الأحاسيس الغريزية التي تدفع الإنسان إلى الإنصياع المطلق لشهوات النفس الأمارة بالسوء . فحتى يتحقق هذا الهدف يجب تنمية الإحساس بوجود الله والإيمان به . فالموضوع الرئيسي الذي يجب أن يقوم عليه المسلسل المعروض في شهر رمضان هو أن يصنع مناخ روحي مشبع بالإيمان والمواقف الروحية التي تبين للمشاهد علاقة الإنسان بربه ، لتساعده في تنمية الإيمان بالله والإحساس بأن الإنسان من دون الله هو لا شيء ، لا شيء على الإطلاق . فحتى يكون المسلسل مسلسل رمضاني يجب عليه أن يحتوي على هذا المناخ الروحي كي يكون هناك نوع من الإنسجام بين موضوع المسلسل وشعور المشاهد الصائم لتساعده -دون أن يدري- في أن يكون صيامه صيام روحي حقيقي وليس مجرد الإحساس بالجوع والعطش .
فدراسة علم الجمال وفهمه هدفه هو تحقيق هذا الإنسجام بين نوعية العمل الفني ونوعية شعور المشاهد وهو يتابع أحداث المسلسل ، ولهذا تم وضع مثل هذا النوع من الأعمال إلى ما يسمى (فن) ، فإذا لم يكن هناك وجود لهذا الإنسجام فهذه الأعمال ليست فناً ولا يستحق أي شخص من الذين يعملون فيها لقب فنان ، فالرسام سيصبح دهان ، والممثل سيصبح مقلد والشاعر سيصبح مُركب كلام ....إلخ .
في العصور الماضية كان إحساس الفنان بعلم الجمال إحساسا فطريا دون وعي أو دراسة ، ولكن بعض الفنانين الملمين بعلوم أخرى وخاصة الفلسفة ، حاولوا أن يشرحوا سبب إحساس الإنسان بالجمال في الأعمال الفنية ، فحاولوا على أساسه توضيح دور الفنان في تنمية المجتمع وإزدهار الحضارات . يقول ليوناردو دافنشي عن الفن " الفنان هو الشخص الذي عندما يصف الماء في أعماله، يصف ذلك الماء الذي يخرج من النبع في الطبيعة وليس ذلك الماء الموجود في جرة بيته".
الفيلسوف وناقد الفن الفرنسي " ايبوليتو تاين" (١٨٢٨- ١٨٩٣) في كتابه " فلسفة الفن" يذهب ويوضح معنى الفن أكثر قائلا "بسبب وجود عوامل عديدة تساعد على تشويه وإخفاء هوية الأشياء في الطبيعة ، قانون الطبيعة نفسه أجبر على ولادة مهنة الفن، الفنان هو الذي يساعد الطبيعة في إظهار شكلها الحقيقي لتستطيع التعبير عن نفسها".
وأنا بدوري أضيف توضيحا أشمل لمعنى الفن ودور الفنان " كل شيء خلقه الله لم يخلق عبثا ولكن ليأخذ دوره في المخطط الإلهي في تطور الكون، لذلك أعطى الله لكل شيء هوية تعبر عن الروح التي تكمن داخل هذا الشيء وكذلك توضح سبب وجوده في الكون . والفنان هو ذلك الإنسان الذي يستطيع رؤية روح هذه الأشياء بشكلها النقي وهو الذي لديه القدرة على عرضها على الناس بعد نزع جميع الشوائب التي شوهت هذه الروح . عندما تظهر هوية كل شيء بشكله النقي كما خلقه الله عز وجل ، يمكن للإنسان أن يرى حكمة قانون الخلق وتطور الحياة من خلال علاقة إنسجام وتناسق عناصر هوية هذا الشيء مع بعضها البعض وبالتالي تستطيع الإنسانية اختيار الطريق الصحيح في تطورها لتصل في النهاية إلى الكمال.
في الماضي كانت اﻷعمال الفنية التي ساهمت في إزدهار الحضارات جميعها تحاول إظهار كم أن اﻹنسان هو كائن مختلف عن الحيوانات ،لذلك كانت الإنسانية في تقدم مستمر نحو اﻷرقى. من يتمعن اليوم في اﻷعمال الفنية بمختلف أنواعها ، رسم ،موسيقى، نحت ، شعر ، رواية ، سينما، مسرح ... يجد أن معظمها تحاول أن تظهر كم أن اﻹنسان مشابه للحيوانات، لذلك نجد الفن الحديث بجميع أنواعه قد تحول إلى عنف ووحشية و دعارة ، لهذا نجده يدخل في صراع عنيف مع كل ما هو قديم إيجابي ينمي الأخلاق الحميدة .
في المقالات القادمة إن شاء الله، سنتكلم عن أهم المسلسلات التي عُرضت في شهر رمضان ، وسنشرح عيوبها وتأثيرها السلبي على المشاهدين إعتمادا على معايير علم الجمال والذي -وللاسف - اليوم لا أحد يستخدمها في نقده لهذه المسلسلات أو الأعمال الفنية الأخرى .
وسوم: العدد 929