الكفر لا يحمي ثورة ولا يبني مجدا
في قصّة النبي نوح عليه السلام نعلم أنّه لبث في قومه 950 سنة يدعوهم للإيمان. إلاّ أنّهم جابهوه بالكفر والجحود والسخرية إلى أن ضاق بهم ذرعا بعد كلّ هذه المدّة ودعا عليهم "وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا" (سورة نوح).
هذا الموقف ذاته اتخذه أبو القاسم الشابي الذي ضاق ذرعا بقلّة وعي الشعب التونسي وجحوده وخموله وتدنّي مستوى تفاعله مع مقتضيات الثورة والمرحلة وقلّة إيمانه وكفره بقدرة الإنسان على التحرّر من المكبّلات التي تعيقه عن رؤية النور والحقيقة الأزلية والاندفاع للمطالبة بالحرّية والكرامة الوطنية. وآثر حياة الركون والاستسلام للأمر الواقع. واستمرأ حياة الخنوع حتّى قال فيه في قصيدته النبي المجهول :
أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً فأهوي على الجذوعِ بفأسي
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي
أَنْتَ روحٌ غَبِيَّةٌ تكره النُّور وتقضي الدُّهُور في ليل مَلْسِ
أَنْتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ حواليكَ دون مسٍّ وجَبَّسِ
سوف أَتلو على الطُّيور أَناشيدي وأُفضِي لها بأشواقِ نفسي
فَهْي تدري معنى الحَيَاة وتدري أنَّ مجدَ النُّفوسِ يَقْظَةُ حِسِّ
نفس هذا الشعب أو أغلبه،وبعد أن جاءته الثورة على طبق من ذهب وبعد أن هتف بشعار الشعب يريد إسقاط النظام، يبرهن اليوم، تحت قصف إعلام الثورة المضادّة، أنّه مازال لم يمسك بقوّة بمقود الحرية. فالحرية دربها طويل وتستدعي وتستوجب طول نفس وبعد نظر ومكابدة ومعاناة في حين يريد الشعب التونسي حرّية وثورة بدون تضحيات حقيقية تذكر أو بتضحيات على شاكلة الوجبات السريعة. فالتضحيات "الجسام" التي أقدم عليها الشعب هو أنه شارك في مسيرات (بعد هروب بن علي) وأدلى بصوته في الانتخابات (50 في المائة مشاركة في الانتخابات ) ولم يعط للتيّار الثوري أغلبية تمكّنه من اتخاذ قرارات حاسمة.(فالتيار الثوري والإسلامي منتخب ب900 ألف صوت في 2014 و2019 -الخزّان الانتخابي- من أصل 4,5 مليون ناخب شاركوا في الانتخابات ومن أصل 8,5 مليون ناخب يحق لهم الانتخاب) ولم يخرج في مسيرات تدعّم الشرعية وتهاجم الثورة المضادّة(ما عدا مسيرات مناصري التيار الثوري) كما لم يخرج من قبل لمعارضة سياسة بن علي الاستبدادية والإجرامية وترك الإسلاميين لقدرهم في سنوات الجمر.
شعب بهذا الوعي والمواقف ينتظر من حكومة خرجت من رحم المعاناة والسجون (الترويكا) أن تحلّ له كلّ مشاكله (التي عجز عن حلّها بورقيبة وبن علي على مدى 55 سنة) وأن تقضي على البطالة وتنتج التنمية وتضغط على الأسعار وتحارب الاقتصاد الموازي في سنوات قلائل. ولمّا بدا له أنّها غير قادرة على تحقيق ذلك لخصوصية الوضع الانتقالي تراجع عن دعم الأحزاب المكونة لها (تراجع النهضة من 1400 ألف ناخب سنة 2011 إلى 900 ألف ناخب سنة 2014 ) وانحاز للمنظومة القديمة التي كانت السبب الرئيسي في كل مصائبه. ولولا ما جدّ من خصومات وانقسامات بين المنظومة القديمة لتحصّلت هذه المنظومة على ثقة الناخبين في انتخابات 2019.
فالشعب في حقيقة الأمر والواقع يناصر المنظومة القديمة ويطالب في ذات الوقت الثوريين بالحلول ويهاجمهم على كلّ تقصير وفشل في وضع انتقالي هش وصعب. ثمّ هو بالتوازي مع ذلك يستنكر ويستكثر عليهم الحصول على جبر ضرر رغم أنّ موارد الصندوق ستتأتّى من الدول الصديقة ولا علاقة لها بميزانية الدولة.
إنّ شعبا هذه مواصفاته جحود خمول لا يغتنم الفرصة ولا يلتقط اللحظة التاريخية والهبة الإلاهية التي نزلت عليه من السماء ويفضّل عليها المواد الاستهلاكية اليومية فهو غير جدير بهذه الحرية. لأنّ الحرية لا تهدى ولا تشترى وإنّما تكتسب. قال الله تعالى "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".
ورغم ذلك فالأمل معقود اليوم على النّخبة وقادة الرأي لإفشال الانقلاب الحاصل باعتبار أنّهم قد ساهموا بشكل فاعل في هروب بن علي. وكان لهم دور فاعل أيضا في خفوت وهج الثورة. فنزع الأحقاد لهو أقرب سبيل لإفشال الانقلاب والمحافظة على المسار الديمقراطي.
وسوم: العدد 942