التنسيق الأمني يعني التجسس
ورد في وسائل النشر المطبوعة والمسموعة أن وكيل وزارة الصحة السودانية قدم استقالته من الحكومة، احتجاجاً على قيام القوات المسلحة وقوات الأمن في الدخول إلى المستشفيات والاعتداء على الأطباء والممرضين، كما تمّ الاعتداء على الأجهزة الطبية المساعدة مثل، عاملي سيارات الإسعاف. هذا موقف شجاع من شخصية وطنية تحمل الهمّ الوطني والمسؤولية الوطنية، تجاه الكوادر التي يتحمل مسؤوليتها مباشرة. إنه يمثل نخبة ذات وعي عال ويحمل مسؤولية مهنيّة رصينة، رغم إرهاب الطغمة العسكرية التي تمارس القتل ضد المدنيين السودانيين، بسبب ممارسة حقهم الطبيعي في التعبير عن آرائهم.
إذا كان وكيل وزارة الصحة قد شعر بالخجل من جراء اعتداءات «عادية» نسبياً على كوادره الطبية، فاستقال، ألم يكن حريّاً بالرئيس الفلسطيني، أن يقدم استقالته بسبب الممارسات الوحشية التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد القرى الفلسطينية (في برقة مثلاً) وضد الشعب (الاستيطان الذي يصادر الأملاك الخاصة) والأسرى الفلسطينيين (هشام أبو هواش) ومقدساتنا (اقتحامات الأقصى) على نحو يومي؟ بل إنه يختار الاجتماع مع وزير الحرب الإسرائيلي والمسؤول الأول عن الجرائم التي ترتكب ضد المدنيين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
لقد أدين الاجتماع ما بين عباس ـ غانتس على نطاق واسع من قطاعات الشعب الفلسطيني كافة، ولكن من المهم جداً ملاحظة التناقض في التصريحات، ما يولّد الريبة، ذلك أن السيد حسين الشيخ، وهو على ما يبدو أخذ مكانة المرحوم الدكتور صائب عريقات في هيكلية صنع القرار الفلسطيني، أورد على صفحته في التويتر أن الاجتماع تناول «أهمية خلق أفق سياسي يؤدي إلى حلّ سياسي وفق قرارات الشرعية الدولية»، بالإضافة إلى ممارسات المستوطنين وقضايا أمنية واقتصادية وإنسانية. بينما جاء البيان الرسمي الإسرائيلي يناقض ما قاله حسين الشيخ، إذ ورد في تغريدة وزير الحرب غانتس نفسه، إنه اجتمع مع عباس وبحثا في مسائل اقتصادية وإجراءات مدنية، ولكنه «أكد أهمية تعميق التنسيق الأمني ومنع الإرهاب والعنف»، أي أنه لم يتم البحث في «خلق أفق سياسي يؤدي إلى حل سياسي»، كما زعم الرفيق حسين الشيخ، بل تركز البحث على التنسيق الأمني.
وإذا كان الحال كذلك، يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها. التنسيق الأمني الذي تحدث عنه غانتس، هو الاسم الحركي للجاسوسية، ببساطة لا تعني إلاّ أن تقوم أجهزة السلطة الأمنية، بملاحقة المقاومين الفلسطينيين وإخبار أجهزة الأمن الإسرائيلية. وهذا معنى إعلان وزير الحرب غانتس، حين اجتمع مع محمود عباس في أغسطس/آب 2021 في رام الله، أنه اجتمع لتعميق التنسيق الأمني، وكرر غانتس العبارة نفسها في الاجتماع الأخير. وقبل ذلك، تمّ اقتحام قوات الأمن الفلسطينية لمخيم جنين ومطاردة شباب المقاومة. ونقل عن قائد أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي، أن جيش الاحتلال كان على وشك تنفيذ عملية عسكرية ضد المسلحين في جنين، إلاّ أن الأمن الفلسطيني تعهد بتنفيذ الحملة، وقام باعتقال ناشطين كثيرين وصادر أسلحتهم، وكانت هذه العملية ـ حسب قول كوخافي- «إحدى ثمار التنسيق الأمني»، والأمثلة على ذلك التنسيق الأمني عديدة، بل واضحة، فما عساه أن يكون هذا التنسيق بخلاف أنه عملية تجسس على كوادرنا المناضلة لصالح الاحتلال؟!
ويجب التمعن في رفض وزير الحرب غانتس البحث مع عباس في مسائل سياسية، وقبل ذلك رفض رئيس الوزراء بينيت الاجتماع مع عباس، وهذا يعني أن العلاقة مع السلطة الفلسطينية، أصبحت مقتصرة على التجسس والتنسيق الأمني، ولا دور سياسي للسلطة، إذا كان الحال كذلك، فلماذا نظلّ نتباهى بوجود فخامة رئيس الدوله ودولة رئيس وزراء ومعالي الوزراء، بينما الأمر لا يحتاج إلاّ لضابط مخابرات يتلقى أوامره من سلطة الاحتلال للقيام بالتجسس. لقد أعلن السيد حسين الشيخ، أن «السيد الرئيس محمود عباس» قد اجتمع مع وزير الحرب الإسرائيلي. فإذا كان محمود عباس ما زال يعتقد أنه «الرئيس»، فإن ذهابه لزيارة شخصية أقل منه منصباً لا يليق بالرئاسة، بل إنه من غير اللائق ـ بروتوكولياً- أن يذهب رئيس دولة لزيارة وزير، أو حتى نائب رئيس، ثم إن هذه الصفة، أي صفة أن محمود عباس هو «السيد الرئيس» لم تعد صفة شرعية أو قانونية، أو حتى مقبوله من الشعب الفلسطيني، بدلالة أنه ألغى الانتخابات التشريعية والرئاسيه في مايو/أيار 2021 لأسباب أجمع المراقبون على أن إلغاءها كانت بسبب عدم ثقة «محمود عباس» بالنتائج رغم تواطؤ حماس وقبولها عدم ترشيح شخص من طرفها، دعماً للمرشح الأوحد. ولا جدال في أن محمود عباس جرى انتخابه في عام 2005، ونجح بانتخابات حرة ونزيهة، ولكن لم يتم التجديد له منذ انتهاء فترة رئاسته الأولى في عام 2009، أي أنه ما زال يمارس سلطاته منذ ذلك الحين من دون تفويض. ونتائج الاستطلاعات تثبت أن حوالي 75% من فلسطينيي الداخل يودون انتخاب شخصية أخرى غير عباس، وطبعاً ترتفع هذه النسبة لدى فلسطينيي الخارج.
وما يؤكد عدم شرعية محمود عباس، أنه صدرت عدة قرارات من المجلس المركزي والمجلس الوطني، والعضوية في المجلسين هي من اختيار محمود عباس نفسه، وهما أعلى سلطات الشرعية الفلسطينية، تطالب فيها محمود عباس بوقف التنسيق الأمني والانسحاب من اتفاقيات أوسلو. ومع ذلك ما زال محمود عباس يتجاوز هذه المؤسسات ويتجاهل سلسلة قراراتها وينحاز إلى مهمة التنسيق الأمني، التي يتعلق بها بشغف باعتبارها مهمة مقدسة، على حد تعبيره.
إن الحملات الشعبية التي تنتشر في أوساط الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه تطالب بإجراء انتخابات لمجلس وطني فلسطيني منتخب (وليس انتخابات لمجلس تشريعي) من قبل قطاعات الشعب الفلسطيني كافة، هي حملات جديرة بالتأييد والدعم، تمهيداً لفرز قيادات وطنية تلتزم بثوابت شعبها وتعمل على التخلص من آثام أوسلو وتطهير التاريخ الفلسطيني من هذا الرّجس الذي دنّس تاريخ نضالنا. وبمناسبة انطلاق «حركة فتح» السابعة والخمسين، يجب عدم نكران أو نسيان شبابنا وأسرانا ونسائنا اللواتي يحرسن نار الثورة وننحني إجلالاً واحتراماً لمعاناتهم ونضالهم ودمائهم، إلاّ أنه يجب على الأخوه في «فتح» أن يحولوا دون تحوّل هذه الحركة المناضلة – كما تحول حزب البعث في العراق – إلى «حزب القائد» بدل أن يظل «الحزب القائد». إن خلع المسميات البراقة لا يغيّر، ويجب أن لا نصاب بعمى الألوان أو عمى الأسماء، من واقع الجريمة التي ترتكب باسم حركة فتح الباسلة. إن التنسيق الأمني هو التجسس بكل بساطة، وعلى كوادر فتح الشريفة أن تنتفض لكرامة شعبها وكوادرها وتاريخها.
وسوم: العدد 963