ماذا يجري في جمهورية بونزي؟
«مخطط بونزي» هو الاسم الذي أطلقه تقرير للبنك الدولي، صدر في الشهر الماضي، على الانهيار الاقتصادي في لبنان. وعلى الرغم من تحايل البنك الدولي ورفضه الاعتراف بدوره في هذا الانهيار، عبر تقاريره الإيجابية عن البنك المركزي وحاكمه، فإن اسم بونزي مطابق ودقيق ويلخص مشروع عصابة السياسيين والمصرفيين اللبنانيين وجشعهم.
النهب واللاعقلانية والعُظامية اللبنانية الفارغة من المعنى، هي التي قادت إلى الانهيار. فالانهيار لم يكن «متعمداً»، حسب عبارة التقرير، بل كان نتاج التذاكي والفصحنة والانتفاخ الذي وصل به الأمر إلى تصديق فكرة «الأعجوبة اللبنانية».
السيد تشارلز بونزي، الذي أعطى اسمه للبنان، هو محتال أمريكي، استنبط ما يطلق عليه الاقتصاديون اسم «مخطط بونزي»، أقام إمبراطورية احتيال في الولايات المتحدة قائمة على دفع الأرباح الخيالية للمستثمرين القدماء من أموال مستثمرين جدد، مشكلاً دائرة من النصب تعيد إنتاج نفسها، غير أن أمره افتضح فسجن ثم سافر إلى البرازيل حيث مات فقيراً ومعدماً.
كان تشارلز بونزي صاحب خطة احتيال محكمة، فصار مليونيراً من نهب أموال الناس، باع الوهم لزبائنه ليكتشفوا بعد حين أنهم اشتروا الخراب.
وعلى الرغم من أن بونزات لبنان لم يكونوا يمتلكون سوى التشاطر والتلاعب وهندسات رياض سلامة البهلوانية، فإنهم قدموا نموذجاً للانهيار لا سابق له. هناك شيء يمكن أن نطلق عليه اسم عبقرية الانهيار. فالسيد الحاكم وشركاؤه من السياسيين والمصرفيين أدهشوا العالم بقدراتهم العجائبية، وبادارتهم للتفليسة اللبنانية، بطريقة ماكرة.
تشارلز بونزي كان سيشعر بالغيرة من قدرة بونزات لبنان على تجنب دفع أي ثمن لجريمتهم، ومن حيويتهم وهم يتصارعون على فتات سلطة فوق الأنقاض، ويتدلعون على دول العالم التي صارت تشعر باللامبالاة أمام «التمسحة» المطلقة و»البندقة» المفرطة، التي جعلت العصابة الحاكمة تحول التحقيق في جريمة انفجار المرفأ إلى مسخرة.
بونزات لبنان يملأون الدنيا ضجيجاً وهم يتقاتلون على تشكيل حكومة الفراغ، وينصبون الفخاخ على عتبة الانتخابات الرئاسية.
العالم مشغول هذه الأيام بالمتغيرات الكبرى التي تلوح في أفق الاتفاق النووي الإيراني، كما أن الصراع الأوكراني يتخذ شكل حرب عالمية مصغرة، والكساد الاقتصادي يعم العالم، والتغيرات المناخاية باتت تثير الرعب.
بونزات لبنان أكثر أهمية من كل هذه التطورات، أو هكذا يعتقدون، بعدما صدقوا مقولة سعيد عقل البائسة عن «لبننة العالم». «الشراكة الوطنية» أي أن يمتلك عون وتابعه جبران باسيل مجلس الوزراء، والحرتقة التي يتقنها نبيه بري، كي يثبت رئيس المجلس النيابي أنه قادر على الانتقام، و»براءة» نجيب ميقاتي المفتعلة والصبورة وملياراته، وإلى آخره… حلفاء المنهبة يجدون في الانتخابات الرئاسية فرصة لإعادة تقاسم كعكة السلطة، فيتضاربون بالكلام ويهددون.
عون يهدد بأنه سيستعيد إقامته البائسة في «قصر الشعب»، أي سيبقى في القصر الجمهوري، والآخرون يهددون ويتوعدون. زعماء الطوائف لا يتعبون أو يملون، فهم على استعداد للمضي في صراعاتهم حتى النهاية، أي حتى نهاية ما تبقى من لبنان.
والغريب أن لبنان وهو يعيش في الزمن البونزي، يجد نفسه أمام الصراع على ترسيم الحدود. الطبقة السياسية استقالت من الموضوع، كأن الدولة لا علاقة لها إلا من حيث الشكل، وهي فعلاً كذلك، لأنها سلمت أمرها للفراغ.
هذه ليست مفارقة لبنانية فقط، بل هي أيضاً تعبير عن أعجوبة الخراب بأوضح تجلياتها. نستعد لقتال اسرائيل، ونتابع لعبة انهيارنا، كأن لا علاقة بين المسألتين، أو كأن هناك خيطاً يربط الانهيار ببنية النظام الطائفي، جاعلاً من أرضنا مجرد ملعب يتصارع فيه وعليه ملوك الطوائف والملل والنحل.
بونزي اللبناني قد يكون مؤيداً لحزب الله، كما قد يكون معارضاً له. وفي الحالين فبونزيته هي الموضوع. ألم نر نموذج البونزي المستبد في سوريا وهو يقتل ويذبح باسم العداء للإمبريالية الأمريكية ويتابع نهب ما تبقى؟ ألا يكفي مشهد بونزات العراق الذين نهبوا الثروات الطائلة ويقومون بتفتيت بلادهم، محولين الشعارات الوطنية إلى مزبلة للكلام؟
كيف يفكر بونزي لبناني مشغول اليوم بالصراعات التفصيلية على مغانم سلطة مفككة؟
هل يصدق نفسه، أم أنه حين يقف أمام المرآة يشعر كم هو مضحك وتافه وكاذب؟
البونزي لا يملك مرآة لأنه كسر جميع المرايا، يقف أمام الفراغ ويقنع نفسه بأن ما يراه على شاشة التلفزيون هو صورته فينتشي.
مراياهم صارت الشاشات التي احتلوها بالرشوة، كأن الإعلام صار شكلاً من أشكال عمليات التجميل التي تفنن اللبنانيون في صناعتها، إلى درجة أن البنوك التي ترشي اليوم القنوات التلفزيونية، كانت تعطي قروضاً للتجميل رغم الإفلاس الذي كان يلوح في الأفق.
لقد صنع اللبنانيات واللبنانيون أو حاولوا أن يصنعوا مرآة لواقعهم في انتفاضة 17 تشرين، لكن ميليشيات النظام المسلحة قامت بتكسيرها. فارتاح البونزات من صورهم وارتاح الناس من الحلم والأمل.
بونزي يحكم لبنان، بونزي يرسم صورة لبنان.
تجربة مئة عام من التحايل انتهت إلى الأبد، وعلينا أن نبدأ من الركام، لأن الخيار هو بين أن نبني وطناً من الصفر أو أن نُدفن تحت الركام.
وسوم: العدد 995