أمتنا الإسلامية ... هي خبيئة الخيرية القادمة
قبل بعثة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لم تكن هناك أمة إسلامية ، بل ولا أمة عربية ، وإنما هي القبائل المتناحرة ، التي تعيش في ظلمات جاهلية عمياء ، وهكذا وصفها اللهُ سبحانه وتعالى قبل الإسلام بالجاهلية ، لأن الناس كانوا يعبدون الأصنامَ ، ويعملون بما يأمرُهم به الشيطان ، ويتعاطون ما لا يليق بالإنسان الذي أكرمه الله بالعقل ، مثل بعض الأعمال التي ذكرها عزَّ وجلَّ : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان ) ، ولأنهم غيَّبوا القيم الإنسانية السامية ، ولم يرضوا بما أنزل الله من البينات على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فكانت جاهليتهم عُدولا صارخا عن قيم الاستسلام لله والانقياد لأوامره ، فحياتهم عبث وعجز وبغي ، استوعبتها فتنة الشيطان ، فقوي القوم كان يستعبد الضعيف ، وقبيلة تغزو قبيلة ، وكانت خطواتهم رهن إشارة الشيطان ، فكان الخلل كبيرا في عقيدة الناس وفي تربيتهم ، وفي سائر أنماط حياتهم ، ولم تكن تُغني بعض الحضارات القائمة آنذاك ميادين سعادة الخلق الدنيوية والأخروية ، بل إن مظاهر تلك الحضارات أعمتهم عن رؤية الحق ، وعن مكانتهم في استخلاف الأرض ، حيث وهب الله لهم العقل والقدرة والإمكانيات ، تماما كأهل جاهلية هذا العصر التي كفرت بالله وأنعمه ، فكانت جاهلية مقيتة خبيثة أباحت المحرمات وشجعت على ارتكاب المنكرات ، وحمت أهل الكفر والفسوق والعصيان ، جاهلية بغت فيها الدول العظمى ـ كما يسميها المهزومون المتخاذلون ـ جاهلية ذات تسلط واستكبار ، يرصد لها طغاتها أكثر من نصف ميزانيات دولها على التسليح ، جاهلية دينها التزوير والتهميش والتهجير ، جاهلية تعتمد على الظلم والقتل والسجن ، جاهلية استهترت بالقيم الإنسانية من خلال حكم بوليسيٍّ وحشي ـ غبيٍّ ـ جاهلية يعصف في أحنائها رصيد هائل من القلق والخوف والفواجع والمآسي ، في دياجير وحشة قاتلة ما أبقت فسحة لأمن أو اطمئنان لأبناء البشرية ، جاهلية كشَّرت عن أنياب الحقد الأعمى ، وحاصرت المؤمنين أبناء الطائفة المنصورة الذين يرابطون ويجاهدون في مواطن الحق ، ويصبرون على أذى هذه الجاهلية ، مقتدين بأسلافهم من الرعيل الأول من الأمييِّن الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هداهم إلى مناهج الحق والخير والسعادة ، الذين قال الله فيهم : ( هو الذي بعث في الأمييِّن رسولا منهم يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) 2/ الجُمُعة . يزكيهم بتربية ربانية ، ويعلمهم معاني السمو والقيام بالواجبات ، ليخرجَهم من ظلمات الجاهلية العمياء ، ويضعهم في محيط المآثر ومكارم الأخلاق ، ويجعلهم أشداء على الكفار ، رحماء بينهم ، رباهم على الإبثار والولاء لله وحده ، لا للطواغيت من المشركين ، ولا للمحرفين من أهل الكتاب ، ولكيلا يهونوا أمام قوى الظلم والاستكبار في أيِّ مكان وزمان . ولا يُجروا وراء شيطان الشهوات ، وليكونوا بحق هم الراشدون السابقون . وبذلك يتمتعُ المسلمُ الحفيُّ بدينِه وسنةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، العاملُ بمقتضياتِ إيمانِه ... بنيِّةٍ صادقةٍ ، وشعورٍ فيَّاضٍ بالولاء والوفاء لأوامر الله تعالى . وهذه النيةُ وهذا الشعور يمنحانه وهجًا روحانيًّا يبعث فيه العزيمةَ لفعل الخير ، واجتناب مواطن الشَّر ، والبعد عن مواقع الأذى ، وتحرِّي أسبابِ سعادة مجتمعِه وأمتِه . وهذا الوهج اللطيف يعكس معاني التلقائية والمباشرة في عمل الخير ، بل يكوِّن المحور الذي تلتف حوله مكارم الأخلاق التي لايغادر طيبُها القيم الإسلامية الإنسانية ، ليكون الحجَّة البالغة على كلِّ أعداءِ الإسلام من مرتدين وحداثيين وطغاة ومنافقين ... لأن واقع الحال ينكرُ على كلِّ مَنْ يُنكرُ فضل الإسلام في عمليات الإصلاح والبناء والتغيير إلى مواطن القوة والعزة ، وما كان هذا الانحدار المريع للأمة من ضعف وخور وانهزام لولا المساحات الواسعة التي تبنَّاها مَن ذكرْنا قبل قليل ، ورضوها لأمتهم . مساحات من الترف واللهو ، وأخرى من الجهل بحقيقة النظرة الإسلامية لأساليب الحياة الكريمة ، وأخرى من الفقر والمرض ، ومساحات أوسع من المكر والتزوير لطمس الروح الوقَّادة لفطرة الأمة ، والانتصار للباطل ليجعلوه في صورة الحق . إن هؤلاء الذين تنكروا لدينِهم ولمجد أمتهم إنما هم الضائعون والمضيِّعون ، تهيم أنفسُهم الأمارة بالسوء في أضيق الحدود ، وهم يظنون أنهم ملكوا الدنيا ، وحيزت لهم أسباب السعادة بحذافيرِها . ولكنهم تعاموا عن هوانهم وذلهم ، بعد أن خسروا احترام الناس لهم ، واحترامهم ــ هم ــ لأنفسهم أيضا ، وقد وضعوا أمتَهم في مشاهد مخزية لاتُحسدُ عليها ، وحرموها عنوةً من حضور شهادتها على الناس كافة ، قال الله تعالى : ( وجاهدوا في الله حق جهادِه ، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ،ملة أبيكم إبراهيم هو سمَّاكم المسلمين من قبل ، وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) 78/الحج . وعجْزُ هؤلاء عن الصعود إلى سمو هذه المكانة أسقطهم في ردهات النزوات والتسلط والعمى ، فأسقطوا أمتَهم بين أنياب المهانة ، وقدموها لقمة سائغة لأشداق المجرمين العتاة من أبناء القردة والخنازير . بل عملوا من حيثُ يشعرون أو لايشعرون للمحافظة على أسباب الجهل والتخلف ، وتقدموا بها ــ فعلا ــ ولكنْ إلى الوراء ، لأنهم أبطلوا قدرة أبناء الأمة في المجالات الأخلاقية والعلمية ، وأفسدوهم بتسويق حضارة مشوهة ممجوجة تافهة ، وأثروا أسواق النفوس الخائرة بالمنكرات والموبقات وبضائع الفسَّاق الفجَّار التي يُجاهر بها في الليل والنهار ، بعد أن تمَّ إعدام قيم الحياء علنا وبكل صلافة و وقاحة . فأنسوا شبابَ الأمة صورتهم المشرقة الجميلة ذات الولاء والوفاء لقدسية الطهارة في النفسِ والسلوك . وبعد أن فاز المجرمون وانتصروا بتغريب الأمة وترحيلها عن مواطن فخرها وأصالتها قال الله تعالى : ( ذلك بأن الله لم يك مغيِّرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وأن الله سميع عليم ) 53/ الأنفال . ماحباهم الله به من حق وخير ومكانة ، فكانت النتيجة ماتراه الأعين ، وتعاني منه الأنفس ، في واقع مرير يقول ربُّ العزة والجلال : ( فلما أزاغوا أزاغ الله قلوبهم ... ) 5/ الصف . حتى أننا نمسي ونصبح على رؤية المخنثين من الرجال ، والمترجلات من النساء اللواتي أبحن أجسادهن وأصواتهن للغادي والرائح ، وهن يتقدمن صفوف الفساد السياسية والاجتماعية بل والقيادية ، وقد لعن النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرجلَ يلبس لِبسة المرأة ، والمرأة تلبس لِبسة الرجل ، في الوقت الذي أحلت فيه حضارة الإفساد مشاهد النساء الكاسيات العاريات المميلات المائلات ، واستحسنت الأكل والشرب بالشمال أسوة بإبليس ، وحلق بعض الشعر وترك بعضه ، وجمَّلت وصل الشعر أيضا ، وشجعت على الوشم والوشر ( تفلج الأسنان للحُسن ) وعلى تغيير خلق الله ... وتلك بضاعة الصهيونيين والصليبيين استوردها أبناءُ جلدتنا الجناة مخالفين أمر الله ، ومحاربين هَدْيَ رسوله صلى الله عليه وسلم . قال سبحانه : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم ) 63/ النور. وهؤلاء المخالفون كأنهم ماوعوا قوله تعالى : ( ويحذركم اللهُ نفسَه ... ) 30/ آل عمران ، وما دروا بأن اللهَ يغار ، وغيرته أن يأتي المرءُ ما حرَّم اللهُ عليه ، كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه حيثُ قال : ( إنَّ اللهَ تعالى يغار ، وغيرة الله أن يأتي المرءُ ما حرَّمَ الله عليه ) متفق عليه . وهكذا ضاعت فرائضُ الدين ، وانتُهكت المحرمات وخاض الناس في حالة من الفوضى النفسية ، ضاربين بقيمهم الحميدة وسيرة أمتهم المجيدة عرض الجدران . عن أبي ثعلبةَ الخُشني جُرثوم بن ناشر رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحـدَّ حدودا فلا تعتدوها ، وحرَّم أشياءَ فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) رواه الدار قطني وغيره . فهذا الفصام المشين والتنافر البغيض بين بعض المسلمين المتنفذين وبين دينهم سبَّب هذا القلق وأوجد هذه الحيرة ، ونغَّص على الناس أفراحهم ، إن الأمة اليوم تعاني من جهل بحقيقة وجودها ورسالتها ، ومن فقر رغم وفرة آلاء الله عليها ، ومن أمراض نفسية وجسدية بسبب وقوعها في مستنقع المحرمات ، وهذه الأدواء جعلت الأمة فريسة سهلة للطامعين والمستعمرين ومحبي التسلط والاستبداد .
إن الجهل والفقر والمرض ، ومثلها الظلمُ والبغي واستباحة حقوق الناس ... وغيرها مما شابهها ، لتساهم في ضعف الأمة وهوانها ، فهي تقوِّي شوكة الاستعمار ، وتجعل لأُولي الأهواء منافذ لتمرير الأطماع ، وتعمل على إخراج الأمة من محيط خيريتها التي أرادها الله لها . قال تعالى : ( كنتُم خيرَ أمَّةٍ أُخرجَتْ للنَّاس ... ) . ولعل دعوة الإسلام إلى طلب العلم ، ورفع شأنه وشأن رواده وطلابه ، إنما هي دعوة لدحر ظلمات الجهل والأمية ، ولتعريف الأمة بمعاني ومآثر ماتقرأ ، فلا ترضى إلا بمناهج الرفعة والرقي ، وكذا الحال في مكافحة الأمراض الجسدية والنفسية ، ليقوى العمل المثمر ، ولقد اقترن العمل بالإيمان في العديد من الآيات الكريمة ، ليؤكد الإسلام على الأخذ بأسباب العافية في كل أوجه الحياة . وهنا عود على بـدء ، فالمتأمل في النهج الرباني يجد اتساع مساحة اهتمام الإسلام في طلب الحياة السعيدة للناس في الدارين . ومقدار قوة الاهتمام بإنقاذهم من كل ما يعكر صفو تلك السعادة ، وحين استجاب أبناء الأمة لنداء الله كانت السِّير الحميدة ، وكانت المآثر والفضائل ، بل كانت الأعاجيب في الإيثار والتكافل والإخاء . ولعل هذه العودة إلى الأصول تستحث خطانا في العصر لنستدرك مافات ، وهي دعوة إلى أهل العلم وأهل الفضل من المحسنين لإعادة بناء جدار المعرفة والخير ... قويا شامخا ليرد عواصف الجهل والمرض والفقر ، ولييمنع رياح الظلم والإفساد من أن تطغى على شباب الأمة ، وهؤلاء المحسنون يساعدون في حفظ وسلامة حدود الأمة من أن تُخترق ، فتضعف الأمة وتستكين ، وتتحول إلى قصعة مستباحة لذئاب الحضارة المتوحشة ، ولقمة سائغة ربما لاتغص بها حلوق المجرمين والطامعين والمتربصين ، أعداء الإسلام أينما كانوا ، ومهما ارتدوا من ألبسة برَّاقة زائفة !!.
وهكذا يبقى نداء الوحي الرباني للسُّمُو بالإنسان ، ولإعداده وحمايته ، ليدرك فضل الله عليه ، وينال الدرجات العلى كطالب علم ، وكمساهم في صناعة مفاتيح التقدم والوعي والحضارة الإنسانية المتألقة بالإخاء ، المحملة بالإيثار وحب الخير لبني البشر جميعا . وهذا النداء موجه إلى أبناء الأمة الذين مازالوا على العهد ، الذين ماغرتهم زينةُ الحياة الدنيا ، وما استكانوا للابتلاءات المتتابعة ، ولا فساد الأنظمة المستقاة من تربة الشر والأذى ، التي ظنت أنها ستحوز على رضا شعوبها بانتخابات مزيفة تدل على الإمعان في التحول إلى نوع من الدكتاتورية المقيتة ، وجرِّ الأمة إلى أزمات ساقتهاإلى انحدار من الكبت والقهر ، يؤدي إلى حنادس بيئة شعب مقهور، وتحت قدميه جمرٌ يغطِّيه رماد الإعلام الصاخب الكاذب ، وجلبة لانقلابات حمر أو بيضٍ أو رمادية ... تؤكد زيف واحتيال مايُسمَّى بالديمقراطية الحضارية القمعية ، من خلال برامج سياسية إصلاحية ـ هكذا يسمونها ـ أتخموها بنقيق الحريات الكالحات ، وصراخ حقوق الإنسان الغائبات . تلك التخرصات التي يدافع عنها زورا وبهتانا أهلُ الطرائف العصرية ، البعيدين عن شهادة العدل والحق في منطق غير قويم ، وهم الغارقون في موجةِ منحِ الامتيازات الوهمية ، الذين يلحق بهم إثمُ خداع الناسِ ، ليبعدوهم عن المطالبة بأبسط حقوقهم التي ربما تمنحهم شيئا من الأمان النسبي ـ على الأقل ـ في هذه الظروف التي أوجدها وهنُ الأمة على أيدي المنحرفين من الطغاة والظالمين .، الذين اصطدموا بجدار الأمة المنيع المتجذر على الحق ونقاء الفطرة ، والشامخ ـ بمشيئة الله ـ بحقيقة التوحيد لله رب العالمين . فلم ولن يستطيعوا هدمَه لأن وهج الصحوة الإسلامية ماضٍ في إنارة الطريق ، وفي توحيد الأمة ، ورصِّ صفوفها من جديد في تصوُّرٍ إسلامي حميدٍ ، بعيدٍ عن المغالاة والعبثية ، وعن تخبُّطِ النظم السياسية المستوردة ذات النُّخب المزيفة التي لاتملك إلا التصرفات التي تزرع الفتن ، وتثير المخاوف لدى الناس ، وتزيد في عملية تقطيع أواصر الأمة ، فهم بعيدون كلَّ البعدِ عن منحى الأعمال الإيجابية التي تجمع القلوب على قيم الإخاء والمودة ، وعدم التنازع على موائد دنيوية زائلة ، حبًّا بمنصب واهٍ وجاهٍ رخيص .
إنها صحوة ... تعمل على تخطي ما يواجهها من قسوة وخبث وحقد وبطشٍ أعمى ، وإنه عودٌ على بدءٍ يُقرأُ ـــ صريحًا ـــ على صفحات هذا التهيُّؤ لتحقيق ما تصبو إليه الإنسانية الحائرة الخائفة من تهديدات الرعب النووي ، إضافة إلى هذا الضياع الذي أبعد الخلق عن الخالق ، إنه الإسلام بعالميته الإنسانية ورحمته التي لاحدود لها ، وبجنوده الأوفياء ، والصفوة من علمائه العاملين الأبرار ، يثرون هذا التهيُّؤ في مدار العودة الشاملة إلى الله بكل مالها من واجبات وقدسية وحماية من ربها جلَّ وعلا بالصبرِ على مكاره العصر ، في انطلاقة موفقة ـ بمشيئة الله ـ لتغيير النفوس ، وإيجاد حركة الوعي في التأهيل ، للرد على محترفي العداوة للإسلام والمسلمين ، ولإجابة المطالب المشروعة للمجتمعات البشرية ، والوعي أيضا في كيفية صياغة ربانية تجتمع حولها القلوب لتتوجه بعدئذ إلى الله الذي لن يتخلى عن الأمة ، ولن يضيِّعها وهو أرحم الراحمين . ولعل هذه العودة وهذا الوعي يخلصان الأمة من سطوة تجار إنتاج العوائق والذرائع والألوان الباهتة في تزيين لافتات دعاوى مجرمي هذا العصر التي تبدو برَّاقة لأول وهلة ... ولكنها سراب ... سراب يخفي في بريقه الكثير من الأذى والشر للإسلام و للمسلمين ،والكثير من الأحقاد والمؤامرات التي خرجت من كواليس الغموض والتعمية إلى قارعة المواجهات ، فكان الغزو وكانت الإبادة ، وامتلأت السجون بأصوات السياط ،وضجت الأقبية بالأنين المر ، وصعدت الأرواح الطاهرة إلى الفردوس الأعلى ـ بإذن الله ـ تشكو إلى الله ... وهي تجدد عصر النبوة ببيعها الأنفس لربها ، وحبها للاستشهاد في سبيله سبحانه . في عصر النُّبوءات الكاذبة . ولكن رغم هذا الواقع المرير البئيس ، ورغم التَّوهم بما تخبئ الأيام ، فإن الفرج مازالت أنوارُه تتلألأ في ظلمات هذا السكون الثقيل ، وما زالت المحن تدفع بالأمة إلى ربها . فهذه العودة المباركة واقعة لاريب في ذلك ، ولا تُقاسُ بموازين الاحتمال ، فالأمة لن يصرفها ـ في نهاية الأمر ـ عن نصرة دينها ظلمُ الظالمين ، ولا غزو العتاة المجرمين ، ولا فقر ولا جهل ولا مرض ... وما نراه اليوم في واقعها ما هو إلا نتيجة لبعدها عن دين ربِّها ، وما هو إلا إنذارٌ مزعج ينبهُ الغافلين ، ويشدُّ عزائمَ المؤمنين ، ليعيدوا أيام ازدهار صفحات المجد والسؤدد للأمة الإسلامية على توالي العصور . فالإسلام حاضرٌ ... حاضرٌ بقوة في إجابة طفلٍ لمعلمه في المدرسة ، حين أراد أن يعاقبه لأنه لم يحفظ درسَه ، فقال له الطالب الطفل : لا تعاقبني فإني في ذمة الله !! بُهتَ المعلم من الإجابة ، وقال لطالبه : وكيف عرفتَ أنك في ذمة الله ؟ قال الطالب : لقد صليْتُ صبح هذا اليوم في مسجد الحيِّ جماعة مع والدي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَن صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله ) . والإسلام حاضر في كلمة شهيد ضحى بحياته في سبيل الله ، حين قال وهو يجر إلى حبل المشنقة : اللهم اجعل دمي نورا لأمتي ، ونارا تحرق أعداء ديني . والإسلام حاضر في أمانة رجل أودعه صاحبه بضعة شياه وغاب عنه عقدين لظروف خاصة ، وعاد يطالب ببضعة شياه ، فإذا بصاحبه يقدم له قطيعا من الغنم نمَّاه من تلك الشياه . وتتجلى مثل هذه المآثر والسِّير في حياة الأمة رغم ما يحيط بها من ظُلم وظلام وقهر ... وهذه السير لم تزل تمنح الأمة قوة رغم ضعفها ، وَأَمَلا مكينا يزيل وحشتها ، ويبدد سحب التشاؤم عن آفاقها المدلهمة ، ويقتل كبرياء الطغاة وتعنتهم بجَلد الصابرين حتى لايعرف الناظر البصير مَن هو الأكثر ألما الجلاَّد أم المجلود !!وفي هذه البيئة اهترأت الأقنعة المزيفة ، وظهر نورُ الحق الذي لم يعد يخفى على ذوي البصائر، تلك المآثر التي جاء بها الإسلام لهي خبيئة الخير التي ينتظرها العالم الحائر الوجل ممَّـا أوجدته الحضارة المادية بكبريائها وضلالها وحقد أباطرتها المجرمين ، خبيئة الرحمة والتآخي وإصلاح الحياة الخاصة بالفرد والأسرة والمجتمع ، وتلك هي دعوة الله تبارك وتعالى لحياة إنسانية بمعناها الحقيقي ، ولإحياء تلك القيم في سلوك الناس ، فالناس اليوم بحاجة ماسة لهذا الإحياء الكريم ، يقول الله عزَّ وجلَّ : ( يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) 24/ الأنفال .
وسوم: العدد 1005