في مواجهة الانحطاط
هل تستطيع حركة ثورية شعبية الاستمرار، من دون ثقافة جديدة تواكبها، وسط قمع وحشي تتعرض له من السلطات المستبدة؟
هذا هو السؤال الذي نشعر اليوم بأنه الغائب الكبير عن المشهد.
في مصر انهارت البنى الثقافية الاعتراضية التي حملت راية الحرية مع صعود الإخوان المسلمين إلى السلطة، والرهاب الذي أصاب العديد من المثقفين العلمانيين ودفعهم إلى أحضان الديكتاتورية العسكرية. ولم يبق سوى أصوات السجناء الذي يجسد علاء عبد الفتاح حلمهم في الحرية من وراء القضبان وفي مواجهة الموت، إضافة إلى بعض مثقفي المنافي.
في سوريا اتخذت المسألة بعداً تراجيدياً بسبب وحشية آلة القمع، فصارت الثقافة السورية كلها تقريباً في المنافي.
أما في لبنان وفلسطين فالحكاية أكثر تعقيداً.
ففي لبنان وفي مواجهة أحد أقوى الأنظمة السياسية العربية، وهو نظام قائم على تغييب الدولة وتحويلها إلى ممسحة لأمراء الطوائف والمصارف، وجدت انتفاضة 17 تشرين نفسها يتيمة بلا مظلة ثقافية تحميها. لم تستطع الثقافة التغييرية في لبنان أن تقدم رؤية متكاملة للبنان جديد ينهض من الركام. فانتهى بنا الأمر إلى مشاهدة عروض مسرح هزلي في مجلس النواب، يلعب فيه من أطلق عليهم اسم «نواب التغيير» دور الكومبارس.
لكن حكاية الغياب المفجعة للثقافة والمثقفين تدور في فلسطين.
الحالة السياسية الفلسطينية واضحة المعالم: السلطة مشغولة بصراع أجنحتها على إرث لا وريث شرعياً له، وإسرائيل تتوغل في الدم الفلسطيني، وخصوصاً بعدما أزال اليمين الفاشي الماكياج العلماني والديموقراطي عن وجه دولة الأبارتايد الصهيونية.
لكن خلف هذه الصورة السياسية القاتمة هناك مرجل يغلي، مرجل يصنعه جيل جديد من الفدائيين، لا علاقة له بزمن الخيول الهرمة التي لن تجد من يرثيها. جيل صنع «عرين الأسود» في نابلس، و«كتيبة جنين»، ورعد حازم وعدي التميمي، جيل داود الزبيدي ووديع الحوح وإبراهيم النابلسي، ومئات الشبان الذين يقاتلون وظهورهم بلا حائط تستند إليه.
الفدائيون الجدد لا علاقة لهم بصراع الفصائل، بعضهم أتى من «كتائب شهداء الأقصى» ومن «الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية» و«حماس»، لكنهم غير معنيين إلا بمسألتين: «الوحدة الوطنية في أرض المعركة»، و«كل البنادق نحو العدو». جيل لا يتوقف لحظة عند تكتيكات الصراع بين «فتح» و«حماس» على السلطة، ولا تعنيه سلطة صارت أداة للاحتلال، ولا ينظر إلى الوراء إلا ليعلن أنه الوريث الشرعي للكفاح الفلسطيني الذي لم يتوقف منذ مئة عام.
لا أسعى إلى إسقاط صورة رومانسية مليئة بالحنين على جيل التحدي الفلسطيني، كما لا أدعي القدرة على إعطاء الفدائيين الجدد دروساً في السياسة، وتحليل أخطائهم التكتيكية الصغيرة، بل أريد أن أرى وأشهد لبداية جديدة تستكمل مسيرة البدايات الفلسطينية.
المسألة التي أثارت انتباهي هي غياب الرؤية السياسية- الثقافية التي تواكب هذه المرحلة الفلسطينية المليئة بالتحديات والمخاطر.
والدة الشهيد إبراهيم النابلسي رممت اللغة الفلسطينية في مأتم ابنها، كأنها خرجت من ملحمة لم تُكتب، لتروي بلغتها الطالعة من القلب، حكايات الألم والكرامة.
غير أن الثقافة الفلسطينية السائدة تعيش اليوم في مكان آخر.
أستطيع أن أتفهم تراكم الخيبات التي تدفع بجيل من المثقفين إلى الصمت، لكن التواطؤ مع السلطة لا يمكن فهمه إلا باعتباره خيانة للثقافة ومعناها.
الخيبة أم التواطؤ؟
الحق يقال إننا لم نعد قادرين على التمييز بينهما، فالثقافة لا تستطيع أن تعتاش على فتات السلطة، أو على رائحة الكاز الآتية من الصحراء.
الثقافة هي الحرية.
أسألكم لماذا نكرم ذكرى غسان كنفاني ومحمود درويش وإدوارد سعيد، إذا صمتنا اليوم وتواطأنا، وقررنا أن لا نرى؟
لم تعد الثقافة الفلسطينية قادرة على الاحتماء بماضيها ورموزها. باسل الأعرج كسر المعادلة بلغته الطازجة التي لا تحمل فذلكات المثقفين، حين صنع من الكلمة فعلاً.
التحدي الثقافي اسمه باسل الأعرج و«عرين الأسود» و«كتيبة جنين».
هذه هي أسماء فلسطين الجديدة، التغافل عن هذه الأسماء وإخراجها من الحيز الثقافي يعني شيئاً واحداً هو موت الثقافة.
المقاومة تحتاج إلى إنتاج ثقافة جديدة تلتقط معناها وتبني لها مظلة فكرية وأدبية وإنسانية.
ما معنى فلسطين من دون فكرتها؟
ومن يكتب الفكرة وسط هذا الخمول الثقافي المخيف؟
يشير موت الثقافة إلى زمن الانحطاط الذي يحاصر العرب اليوم، وهذا يعني أن أحد أهم شروط الخروج من الانحطاط هو بناء ثقافة الحرية والتحرر.
نجد في فلسطين بذور هذه الثقافة الجديدة التي ينتجها الأسرى، ووسط عسف سلطات السجون الإسرائيلية.
كأن السجن صار فسحة حرية صنعتها إرادة الحياة.
أعمال وليد دقة وجامعة مروان البرغوثي ودراسة جمال حويل عن مخيم جنين، والعديد من الأبحاث الفكرية والأطروحات الجامعية والروايات، تأتي من هناك لتسد نقصاً فادحاً وفراغاً مخيفاً تعيشه الثقافة الفلسطينية السائدة.
غياب المظلة الثقافية يترافق بشكل مفجع مع غياب المظلة السياسية، التي كان من البديهي أن تقدمها كوادر حركة فتح، خصوصاً أن الكثير من الشهداء هم من أبنائها.
ما هذا الصمت؟
لماذا تحضر هذه الكوادر في ملصقات الشهداء وتغيب عن تنظيم العزاء، هناك في فلسطين وهنا في الشتات؟
هل هو الخوف من السلطة؟ أم هو الترقب والانتظار؟ أم ماذا؟
لا أملك جواباً على هذا السؤال، لكن ما أعرفه هو أن الثقافة في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر هي أمام امتحان وجودها.
وفي هذا الامتحان نتعلم أبجدية الحياة من الذين يصنعون الحياة بموتهم وآلامهم.
وسوم: العدد 1008