حول الوحدة الميدانية الفلسطينية
ثمة نقطة يمكن التنبّه إليها، وهي الكفّ عن المطالبة بإنهاء الانقسام، أو بالسعي لتحقيق مصالحة. وذلك لأن الانقسام الذي حدث كان ضرورة، وهو الذي طُبّق عملياً. فما كان على الشعب الفلسطيني أن يتوحّد تحت اتفاق أوسلو، أو أيّ مشروع يقول بحلّ الدولتين، أو الموافقة على القرارات الدولية. ولم يعد بالإمكان الوحدة على أساس استراتيجية التحرير والمقاومة، خصوصاً بعد الشرخ الذي أحدثه اتفاق أوسلو. والدليل أن كل المحاولات التي بذلت لإنهاء الانقسام، أو عقد مصالحة على أساس برنامج مشترك قد فشلت، وكانت أشبه بمن يحرث في البحر.
ويمكن أن يُضاف هنا أن المحصلة الواقعية التي نجمت على الأرض، في ظل الانقسام، لم تكن دماراً وكارثة للنضال الفلسطيني، أو القضية الفلسطينية. بدليل، أيضاً، أن مشروع أوسلو انتهى إلى فشل ذريع، وطريق التسوية لم يحقق هدف تصفية القضية الفلسطينية، فيما لم يمنع، بل في الأغلب سهّل، استمرار المقاومة والانتفاضات وتطورهما، حيث أصبح عندنا قطاع غزة المحرّر بالرغم من الحصار، وأصبحت لدينا فيه مقاومة مسلحة خاضت الحرب تلو الحرب، حتى أثبتت قواعد للاشتباك، ما كانت "الوحدة" لتصل إلى عشر معشارها.
وجاءت حرب سيف القدس 2021، وما صحبها من انتفاضة، وتظاهرات في مناطق الـ48 والضفة، وما تلاها من تصعيد للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية، حتى وصلت اليوم مطلع 2023 إلى ثبات مواقع كتيبة جنين، وعرين الأسود في نابلس، واندلاع المواجهات في عشرات القرى والمدن والمخيمات.
لهذا ما ينبغي لأحد أن يهجو بعد اليوم ما حدث من انقسام أو يمدح المصالحة، أو الوحدة غير الممكنة أو الوهمية، أو يطبّق نظرية القوّة بالوحدة، والضعف بالتفرّق، ليردّ عليه بالتجربة الفلسطينية، كما حدث في الواقع: القوّة بالانقسام، والضعف بالمصالحة.
طبعاً هنالك منهجان؛ أحدهما يعتبر الواقع والنتائج على الأرض هي القول الفصل، وثانيهما يظن أن ما في العقل من منطق ومقولات، هو القول الفصل في قراءة الواقع، حتى لو كان مغايراً كثيراً.
هذا يجب ألاّ يوصل إلى القول بأن الانقسام الذي يؤدي إلى اقتتال يمكن أن يكون جيداً، فيما هو في الوضع الفلسطيني شرٌّ مستطير، ولا يجوز الاقتراب منه، وهو ما أسقطته التجربة أيضاً حين تمّ تجنبّه وعدم الوصول إليه.
فالانقسام يمكن أن يكون تحت سقف لا يسمح بإراقة الدم أو الاقتتال، ويكون بقاؤه شراً لا بدّ منه. ولكن قد تأتي النتائج الواقعية بوضع إيجابي كما هو حاصل الآن. وهو ما أثبتته التجربة في الردّ على من راحوا يلطمون الخدود، ويتوقعون عظائم الأمور، ما لم ينته الانقسام ويتوحّد الجميع.
على أن ثمة خياراً أثبتته التجربة الواقعية، ويمكن الخروج منها بتنظير يسمح بتحوّل الانقسام الذي لا بدّ منه، وقد وقع الفأس في الرأس (اتفاق أوسلو)، إلى ما هو خيرٌ في المواجهة مع العدو.
عندما طرح الرئيس الأمريكي مشروعه المسمّى "صفقة القرن"، قوبل من قِبَل قيادة السلطة و"م. ت. ف" في الضفة الغربية، بالرفض والمعارضة. وقوبل من طرف "الانقسام" في قطاع غزة، قيادة المقاومة والفصائل والشعب عموماً، بالرفض القاطع والهجوم الصارم الذي يستحقه؛ ضدّ أمريكا ورئيسها.
وقامت معارضة شعبية عربية وإسلامية واسعة. والتقى كل ذلك في لحظة واحدة، وبلا تنظيم أو اتفاق، لمعارضة "صفقة القرن" وشجبها وعزلها، مما أدّى إلى إضعافها وإرباكها، وفي النهاية إلى إفشالها، من دون التقليل من أهمية سقوط دونالد ترامب في الانتخابات.
وعندما اندلعت حرب سيف القدس، بمبادرة ذكية من المقاومة في قطاع غزة، وانتفاضة الـ48، وتظاهرات الضفة الغربية 2021، توّحد الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، في لحظة استثنائية فريدة، مما جعلها تُؤتي أُكلها في حينه، ومن بعده.
وعندما أخذت المقاومة تتصاعد في العام 2022 ابتداءً من المواجهات في المسجد الأقصى والقدس، وفي العمليات "الفردية" مثل عملية بئر السبع (محمد غالب أبو القيعان) وعملية بني براك (ضياء حمارشة) ودوزينكوف (رعد خازم)، ثم تلتها ظاهرات كتيبة جنين، وظاهرة ابراهيم النابلسي، وجنائز الشهداء، وأخيراً وليس آخراً ظاهرة عرين الأسود.. كل ذلك، تم ضمن غطاء من الحماسة الشعبية، والاحتضان الشعبي الذي لا مثيل له.
هنا أيضاً أخذ الوضع الفلسطيني يشهد وحدة واسعة، تلتقي على دعم المقاومة في الضفة الغربية، وإمدادها بكل أسباب التأييد والمساندة، ما ظهر منها وما خفي.
أما الفصائل بدورها، وكل وفقاً لإمكاناته وقدراته ودوره، فقد راحت تتحدّ عملياً في الموقف من ظاهرة المقاومة الجديدة في الضفة الغربية.
خلاصة التنظير هنا هو أن ثمة تحقيقاً لوحدة واسعة تتشكل في اللحظة الميدانية المعطاة. ومن ثم تأتي بتأثيرها وأُكُلها، حيث يمكن للفعل والحدث والمناخ العام، أن يوحّد من لم يكن بالإمكان توحيدهم، من خلال الحوار والمساعي والوعي، أو بسبب الانقسام. طبعاً يكون قد فعل فعله أيضاً، حتى حين لم ينجح.
القضية الفلسطينية قضية جامعة، والعداء للاحتلال وجرائمه قضية جامعة، والرأي الشعبي العام جامع. ولكن الجمع هنا ليس بالضرورة جمع تنظيم ووعي مسبق، وإنما جمع يمكن أن يفرض نفسه في الميدان، كما دلت التجربة الفلسطينية في أكثر من مناسبة.
طبعاً هذا لا يلغي أن تجري محاولات واعية ومنظمّة لتحقيق وحدة، ولكن هذا لا يمنع تشكل وحدة تحت راية قضية محدّدة، أو حدث محدّد، أو لحظة ميدانية سعيدة.
وسوم: العدد 1016