فنّ إدارة الأزمات والكوارث (الفاروق نموذجًا)
إن الأزمات بالذات خير ما يعرفك بالذات لأنها تخرج أفضل ما عند الناس وأسوأ ما عندهم في الوقت ذاته، فكلنا شاهد التعاون والإيثار والأخوة بين الناس، وكذلك أخرج طبقة جديدة فاسدة وهم تجار الزلازل، كما هناك تجار حروب، الذين استغلوا الناس دون رادع أخلاقي ولا ديني!
والأزمات المتعاقبة إن لم ينبرِ لها أناس صالحون وأئمة عادلون ستتفاقم حتى تتحول إلى كوارث، وإن قيام أهل الصلاح والعدل بدورهم سببٌ في حصول البركات وتجاوز الأزمات. يقول ابن الأزرق: (إنَّ نيّة الظلم كافية في نقص بركات العمارة)، وعن وهب بن منبّه قال: إذا همّ الولي بالعدل أدخل الله البركات في أهل مملكته حتى في الأسواق والأرزاق، وإذا هم بالجور أدخل الله النقص في مملكته حتى في الأسواق والأرزاق)، ومن كلام العرب قولهم: (سلطان عادل خير من مطر وابل)، وقالوا: (عدل السلطان خير من خصب الزمان).
وإدارة الأزمات تعني السعي الحثيث لإعادة الأمور إلى نصابها، وذلك بوضع السياسات والإجراءات العاجلة واللازمة لعبور الأزمة والخروج منها بأقلّ الخسائر الممكنة. وهذا ما فعله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث تجلّت عبقرتيه الإدارية والسياسية في التعامل مع الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالناس في عهده، فخرج منها بأقل الخسائر... ومن أبرز هذه الأزمات:
1.عام الرمادة.
2.وطاعون عمواس (وباء جستنيان).
3 .والهزة الأرضية التي أصابت المدينة المنورة.
فقدّم نموذجًا يحتذى به للتعامل مع هذه الأزمات، كلّ أزمة بما تتطلب طبيعتها من سياسات وإجراءات.
أولًا:(عام الرمادة)
ففي سنة 18 هجرية أصاب الناس في الجزيرة مجاعةً شديدةً فعمَّ الجدب والقحط واشتدّ الجوع وسمّي هذا العام يـ (عام الرمادة)، لأن الريح كانت تسفي ترابًا كالرماد، واشتدّ القحط وعزّت اللقمة، وهرع الناس من أعماق البادية إلى المدينة يقيمون فيها أو قريبًا منها، يفزعون إلى قيادتهم يلتمسون منها الحلّ للأزمة والخروج منها وعبورها بسلام، فكان الفاروق أكثر الناس إحساسًا بهذا البلاء وتحملًا لتبعاته، لأنه يعتبر السلطة تكليفًا لا تشريفًا وأداءً وإنجازًا وإرادةً وإدارةً...
(القيادة قدوة)
فقام رضي الله عنه بجملة من السياسات الحكيمة التي ساهمت في التخفيف من تداعيات الأزمة، فحلف منذ أن حلّت هذه الأزمة ألّا يذوق لحمًا ولا سمنًا حتى يحيي الناس. ولقد أجمع الرواة جميعًا أن عمر كان صارمًا في الوفاء بهذا القسم، وكان يقول: "كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم؟!" وقد تأثّر رضي الله عنه في ذلك العام فأكل الزيت حتى تغيّر لونه وجاع جوعًا شديدًا وكان يخاطب بطنه (قرقري أو لا تقرقري فوالله لا آكل حتى يأكل الناس). وعن أسلم قال كنا نقول: لو لم يرفع الله تعالى المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين.
(تأسيس معسكرات اللاجئين)
ففي ذلك العام جاء العرب من كل ناحية إلى المدينة فأمر عمر رضي الله عنه رجالًا يقومون بمصالحهم وقد عيّن أمراء على نواحي المدينة لتفقّد أحوال الناس الذين اجتمعوا حولها طلبًا للرزق لشدّة ما أصابهم من القحط والجوع، فكانوا يشرفون على تقسيم الطعام والإدام على الناس وإذا أمسوا اجتمعوا عنده فيخبرونه بكل ما كانوا فيه وهو يوجههم.
(دار الدقيق)
وكان يطعم الأعراب من (دار الدقيق)؛ وهي من المؤسسات الاقتصادية التي كانت توزع على الوافدين إلى المدينة الغذاء اللازم، وقد توسّعت هذه الدار لتصبح قادرة على إطعام عشرات الألوف من الذين وفدوا إلى المدينة لمدّة تزيد عن تسعة أشهر قبل أن ينزل المطر. واستمرت القدور العمرية الضخمة يقوم عليها عمال يطبخون من بعد الفجر ثم يوزعون الطعام على الناس... وهذا يدل على سعيه الحثيث لتطوير مؤسسات الدولة.
(الاستعانة بأهل الأمصار)
ثم شرع رضي الله عنه بالكتابة إلى عماله على البلاد الغنية يستغيثهم؛ فأرسل إلى عمرو بن العاص عامله إلى مصر: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص، سلام عليك أما بعد: أفتراني هالكًا ومن قبلي وتعيش أنت منعمًا ومن قبلك؟ فواغوثاه. فكتب إليه عمرو بن العاص سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فقد أتاك الغوث، لأبعثنّ إليك بعيرٍ أولها عندك وآخرها عندي، فبعث في البر بألف بعير، وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدقيق والدهن، وبعث إليه بخمسة آلاف كساء.
وكتب كذلك إلى كل عامل من عماله في الشام والعراق وفارس: أن ابعث إلينا من الطعام بما يصلح، فكلهم أرسلوا إليه، وجعل رضي الله عنه يرسل إلى الناس مؤنة شهر بشهر من الغذاء والكساء.
(الغرم بالغنم)
ثم قام بتوزيع المغانم والمغارم وتدوير الموارد بحيث تكفي الجميع ضمن سياسة تكافلية لا تتعلق فقط بالأفراد حينما أمر الأغنياء بأن يخرجوا ما عندهم من غذاء ليمدوا الموائد في الطرقات فيفيض الغني بما عنده على كل فقير ومضار وجائع...
(تعليق إقامة حدّ السرقة)
وهذه واحدة من التدابير القانونية المهمة التي اتخذها الفاروق ضمن سياسات عدّة فقد قام بوقف حدّ السرقة في عام الرمادة (تعليقًا وليس تعطيلًا)، وكان هذا إعمالًا لحقيقة هذا الحدّ لأن شروط تنفيذ الحدّ لم تكن متوفرة فأوقف تنفيذ حدّ السرقة لهذا السبب.
فالذي يأكل ما يكون ملكًا لغيره بسبب شدة الجوع وعجزه عن الحصول على الطعام يكون غير مختار فلا يقصد السرقة ولهذا لم يقطع عمر يد الرقيق الذين أخذوا ناقة وذبحوها، بل أمر سيدهم حاطب بدفع ثمن الناقة.
(تأخير دفع الزكاة)
ثم أوقف رضي الله عنه إلزام الناس بالزكاة في عام الرمادة، ولما انتهت المجاعة وخصبت الأرض جمع الزكاة عن عام الرمادة أي: اعتبرها دينًا على القادرين حتى يسدّ العجز لدي الأفراد المحتاجين وليبقي في بيت المال رصيدًا بعد أن أنفقه كله، فعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب أخّر الصّدقة عام الرمادة فلم يبعث السعاة، فلما كان قابل ورفع الله ذلك الجدب أمرهم أن يخرجوا فأخذوا عقالين أمرهم أن يقسموا عقالا ويقدموا عليه بعقال.
(الاستسقاء والتوبة والدعاء)
وهذه التدابير كلها لم تشغب على التدبير الأساسي وهو الاستغاثة بالله مدبر الأمر... واللجوء إليه والتوبة والإنابة...
حيث خطب الناس قائلا: أيها الناس، إني أخشى أن تكون سخطة عمتنا جميعًا، فأعتبوا ربكم وانزعوا وتوبوا وأحدثوا خيرًا.
وعن عبد الله بن ساعدة قال: رأيت عمر إذا صلى المغرب نادى أيها الناس استغفروا ربكم ثم توبوا إليه وسلوه من فضله واستسقوا سقيا رحمة لا سقيا عذاب فلم يزل كذلك حتى فرّج الله عنّا.
ثانيًا: أزمة (طاعون عمواس)
يُعتبر هذا الطاعون أحد امتدادات طاعون جستنيان. وهو أول وباء يظهر في أراضي الدولة الإسلامية أشبه ما يكون بوباء (كورونا). فبدأ الطاعون في عمواس، وهي قرية قرب بيت المقدس، فسُمي «طاعون عمواس» نسبة لها، ثم انتشر في بلاد الشام. وكان عمر بن الخطاب يهمّ بدخول الشام وقتها، فنصحه عبد الرحمن بن عوف بالحديث النبوي: «إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارًا منه». وكتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضا عميقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.
وهذه السياسات والتدابير هي نوع من أنواع محاصرة الوباء، حتى لا ينتشر. فهو بمثابة تدابير احترازية ووقائية أو ما يعرف الحجر الصحي.
ثم بعد انحسار طاعون عمواس، خرج عمر بن الخطاب من المدينة المنورة متجهًا نحو بلاد الشام. فلمّا وصلها قسّم الأرزاق وسمّى الشواتي والصوائف وسدّ فروج الشام وثغورها، واستعمل عبد الله بن قيس الحارثي على السواحل، ومعاوية بن أبي سفيان على جند دمشق وخراجها. ثم قسّم مواريث الذين ماتوا، بعد أن حار أمراء الجند فيما لديهم من المواريث بسبب كثرة الموتى. وطابت قلوب المسلمين بقدومه بعد أن كان العدو قد طمع فيهم في أثناء الطاعون.
ثالثًا: (زلزال المدينة)
هناك أثر صحيح: رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن صفية بنت أبي عبيد [زوج ابن عمر] قالت: «زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر وابن عمر يصلي فلم يدرِ بها ولم يوافق أحدًا يصلي فدرى بها، فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم لقد عجلتم، قالت: ولا أعلمه إلا قال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم.
(وقفة مع زلزال المدينة)
-يبدو أن الأرض اهتزت ورجّت ولم تكن زلزالًا مدمرًا والدليل أن السرر اصطفقت، ولا يوجد نص يدل على أن البيوت تدمّرت أو تصدعت!
فكان المقام مقام وعظ وتذكير بآيات الله وهذا ما فعله الفاروق رضي الله عنه. ولو كان زلزالًا مدمرًا لتحرّك لنجدة المنكوبين كما فعل في يوم الرمادّة ويوم الطاعون! وهل يعقل أن أعدل الناس الفاروق يتعامل مع الكوارث بهذه السلبية! وهل يعقل أن يكتفي بمجرد الموعظة دون نجدة المنكوبين!
-إن الوقوف على ظاهر النص أو اجتزاء الكلام من سياقه التاريخي دون فهم الأمور على نصابها يقود إلى أخطاء كارثية وفي مقدمتها ظلم التراث وظلم العظماء وفي مقدمتهم ظلم إمام العظماء العبقري الفذّ: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي قال عنه رسول الله ﷺ: لَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ...
وإن تنزيل النصوص على أرض الواقع عمل جليل كبير لا يقوم به إلا فقيه أصولي مقاصدي متمرّس قد استوعب النصوص المتعلقة بالواقعة استيعابًا كاملًا واستوعب الإطار الزمني الذي جاءت به هذه النصوص، فضلًا عن إدراكه للواقع إدراك إنسان منخرط في الميادين إلى أبعد أمدٍ ممكن.
وإن ما نراه اليوم من فوضى واضطراب في التعامل مع النوازل والأزمات والكوارث، ينمّ عن كوارث فكرية وعلمية لا تقلّ خطرًا عن الكوارث الطبيعية التي نعيشها اليوم. ولو سكت من لا يعلم لأراح واستراح، ورحم الله إنسانًا عرف قدره فوقف عنده.
وسوم: العدد 1022