محاكمة الجبرتي
في زمن لم تكن الأمة تعرف فيه القوميات وتعيش بمفهوم الجسد الواحد، وتحديدا في الرابع عشر من يونيو/حزيران 1800، كان ذلك الشاب السوري يدخل مقر الاحتلال الفرنسي في القاهرة، ويوجه عدة طعنات قاتلة للجنرال كليبر الذي خلف نابليون بعد سفره في قيادة الحملة.
إنه سليمان الحلبي ابن الـ23عاما، الذي أرسله والده إلى القاهرة بعد أن بلغ العشرين للدراسة في الأزهر، وعاصر الغزو الفرنسي لمصر، وشهد انتهاكات الفرنسيين ضد الأزهر والشعب المصري، وقام بهذا العمل ضد المحتل الأجنبي، مخلدا بذلك اسمه في التاريخ، باعتباره بطلا من أبطال المقاومة.
أبرز من أرّخ لهذا الحدث هو عبد الرحمن الجبرتي صاحب كتاب «عجائب الآثار»، الذي تضمن حقبة الاحتلال الفرنسي (1798-1801)، ويعد المرجع الأساس للتأريخ عن الحملة، إذ أنه شاهد عيان على تفاصيلها، كما أنه احتكّ بشكل قوي بالحملة وتمتّع بمكانة سياسية عالية في في الديوان الفرنسي. ما يلفت الانتباه في تاريخ الجبرتي وهو المصري الأزهري، أنه لم ينظر إلى سليمان الحلبي على أنه بطل من أبطال المقاومة، بل يتعجب القارئ عندما يجد الجبرتي متحاملا في وصفه على الشاب السوري، فيقول في معرض حديثه عن محاضر التحقيق: «وقد كنت أعرضت عن ذكرها لطولها وركاكة تركيبها لقصورهم في اللغة، ثم رأيت كثيرا من الناس تتشوق نفسه إلى الاطلاع عليها، لتضمينها خبر الواقعة وكيفية تعامل الحكومة، ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكّمون العقل، ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تَجارَى على كبيرهم رجل آفاقي أهوج وغدره». فهو هنا يصف سليمان الحلبي بأنه آفاقي أهوج.
كما يلاحظ القارئ في مطالعة حقبة الاحتلال الفرنسي في كتاب الجبرتي، أنه كان يشيد بعدالة الفرنسيين في المحاكمة، وضبطهم الأحكام، ودقة اهتمامهم بتسجيل وتدوين محاضر التحقيق ونشرها بالعربية والفرنسية والتركية، وهو مع هذه الإشادة بعدالة الفرنسيين، أقر بأنهم قاموا بتعذيبه، حتى يعترف، بعد أن أدلى بمعلومات مضللة، فهو يقول في كتابه: «فلما أن كان المتهوم لم يصدق في جواباته، أمر ساري عسكر أنهم يضربونه حكم عوائد البلاد»، ومقصد الجبرتي بقوله «يضربونه حكم عوائد البلاد» ما كان يجري في حكم المماليك، وبهذا يوحي كلامه بالتهوين من واقعة التعذيب.
الملاحظ كذلك في ما كتبه الجبرتي، أنه أعرض عن ذكر مسلك البطش بالمصريين الذي اتبعه الفرنسيون عقب مقتل كليبر، واكتفى بأنهم كانوا يعتزمون الانتقام من أهل مصر، إلا أنه تأكد لديهم براءة المصريين بعد اكتشافهم أن القاتل من أهل الشام. أعرض الجبرتي عن ذكر بطش الفرنسيين بالشعب المصري مع أن هيرولد مؤرخ الحملة الفرنسية ذاته، نقل عن جاويش في الجيش الفرنسي وصفه لردة فعل القوات الفرنسية عقب مقتل قائدها، حيث نقل قوله: «ساعة قتل كليبر، اندفعنا إلى الخارج، فقتلنا بسيوفنا وخناجرنا جميع من صادفناه من الرجال والنساء والأطفال»، إضافة إلى ذلك، تعامل الجبرتي مع تنفيذ الحكم البشع الذي صدر ضد سليمان الحلبي والأزاهرة الثلاثة، الذين أطلعهم على نيته، ولم يخبروا الحملة، بلا أي استنكار. فالحكم قد صدر على رفاقه بقطع رؤوسهم وتعليقها على عصيّ أمام أعين سليمان كنوع من العقاب النفسي، ثم حرق يده اليمنى وهو حي، ثم قتله بطريقة الخوزقة البشعة، ويترك بعد تمزق أحشائه ينزف حتى الموت، علما بأن عادة الخوزقة كانت قد أبطلت في ذلك الوقت.
لم يستنكر الجبرتي الحكم، بل كان يستخدم ألفاظا لوصف حكمهم لا تليق، كترديده لكلمات «أفتوا بكذا، الفتوى الشرعية»، وإن كنا لا نتهم نواياه إلا أنها عبارات موهمة، تجعل أحكامهم بمنزلة الشريعة، وهذا خطأ في التعبير لم يكن ينبغي له، لكنه على حال يبرز عدم استنكار الجبرتي للطريقة التي تم بها القصاص. إبداء الجبرتي إعجابه بالفرنسيين وضبطهم الأحكام وعدالتهم في المحاكمات، في الوقت الذي تحامل على سليمان الحلبي، لا يمكن تفسيره على أنه وقع تحت ضغط الخوف من الفرنسيين، لأن ما سجله الجبرتي لم يخرج بالشكل النهائي إلا بعد رحيل الاحتلال الفرنسي عن مصر. وفي الوقت نفسه لا يمكن التشكيك في وطنية الجبرتي، أو اتهامه بالعمالة والنفاق، فالرجل كان معروفا بمعارضته لحكم محمد علي، ويقال إن ولده قُتل لرفض الجبرتي الكتابة في مدح الوالي محمد علي، لكن الأقرب للقبول، هو أن الجبرتي قد اختطفه بريق التمدن الغربي، وانبهر بحضارة الفرنسيين الوافدة، وتم احتواؤه خارج الإطار العسكري للفرنسيين، وتجاوز في نظرته إليهم كونهم محتلين، فأغفل البعد السياسي للمحاكمة الصورية التي بُنيت على حكم مسبق، وتم انتزاع الأقوال فيها بوحشية، وغفل بذلك الجبرتي عن السياق العام للأحداث، وتحدث عن عدالتهم، بينما كان وجودهم في الأساس في مصر أمراً غير عادل.
الأمر الآخر، أن الجبرتي الذي ألف كتابه بعد خروج الحملة، كان ضحية الظلم الاجتماعي والسياسي الواقع على الشعب المصري والوضع الفوضوي في المحاكمات تحت حكم المماليك، فلذلك كان يعقد في كتابه مقارنة بين حكمهم، على الرغم من أنهم ينتسبون للإسلام، وحكم الفرنسيين رغم أنهم لا يدينون بهذا الدين، وهي مقارنة غير سوية من الجبرتي، لأنه قارن ظلما بظلم. المشكلة في ما كتبه الجبرتي، أنه قد اتكأ عليه فئامٌ من الكتّاب والمفكرين لتجريد سليمان الحلبي من بطولته وشجاعته وانتمائه لأمته، كما أنهم اعتمدوا عليه في الانتصار للحضارة الغربية، بزعمهم أن الحملة الفرنسية على مصر كانت نقلة حضارية للشعب المصري، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 1022