الوضع الفلسطيني في مرحلة جديدة
هذا العنوان لازمَ كل تقدير موقف للوضع الفلسطيني منذ حرب سيف القدس، وقد تكرسّ بعد حرب خمسة الأيام التي عاشتها فلسطين، ومعها الشعوب العربية والإسلامية والعالم كله، وقد حملت اسم "ثأر الأحرار". فما الجديد الذي أدخل الوضع الفلسطيني في مرحلة مختلفة كيفياً (نوعياً) عن المراحل السابقة؟
واجه الوضع الفلسطيني قبل اندلاع الحرب حدث اغتيال الشهيد خضر عدنان، ثم ثلاثة من القادة العسكريين لسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، في قطاع غزة. واتخذ العدو إجراءات الدخول إلى الملاجئ في توقع ردّ فوري، وقد تأخر الردّ 35 ساعة، مما أقلقه ليُفاجأ بالردّ لاحقاً.
هذا التأخر بالردّ كان ذكياً من ناحية ترك العدو في حالة توقع وتخوّف وقلق، وذلك من حيث كيف سيكون، وفي أيّ اتجاه سيكون. ولكن السبب الأهم وراءه، كان ما جرى من تنسيق بين حركتي الجهاد وحماس، والانتقال إلى الغرفة المشتركة، لتبدأ الحرب، وتنتهي على الشكل الذي تحكمت به الغرفة المشتركة، مما ضمن وحدة الموقف والمواجهة، وأرسى تقاليد تنسيقية تناسب الحالة العسكرية الفلسطينية، وتحول دون أيّ شرخ، ولو كان جزئياً، ما بين حماس وحركة الجهاد التي تولت الردّ، ومعها عدد من الفصائل، من بينها الجبهة الشعبية (قدمت ستة شهداء)، وذلك ضمن توافق مع قيادة عز الدين القسام التي شكلت الحامي والظهير الذي إصبعه على الزناد، في حالة الاقتضاء لتوسيع الحرب إلى المستوى الأشمل، من خلال قيادة كتائب عز الدين القسام، وسرايا القدس والجبهة الشعبية وباقي أعضاء الغرفة.
وهنا يلحظ أن قادة فصائل المقاومة الجبارة في قطاع غزة استطاعوا أن يُبدعوا نهج الوحدة الميدانية، في ظل التنسيق، مما أوجد معادلة مبدعة بين التعدد، ووحدة المواجهة في الميدان، وفقاً لتطورات المعركة. وهذا درس أول لحرب خمسة الأيام المنتصرة.
ولكن للأسف هنالك من أنصار المقاومة، ممن لم يلتقطوا هذه المعادلة الدقيقة والصحيحة، راحوا يتساءلون لماذا لم تتدخل قوات عز الدين القسام بكل ثقلها في إطلاق الصواريخ (أحياناً في تشكيك لتكريس تفرقة). فلم يلاحظوا أولاً أن قوات عز الدين القسام كانت في كل ثقلها في المعركة، ولو لم تعلن عن إطلاق صواريخ، ولا يجوز أن يُقرأ الانتصار الذي تحقق دون هذه الحقيقة. وقد أكد أمين عام حركة الجهاد زياد نخالة على أن المعركة قُيّدت بوحدة وتنسيق وتفاهم. وهؤلاء لم يتصوروا أن تتم مواجهة ميدانية منتصرة، على هذا المستوى من التنسيق، ومن توزيع الأدوار في غرفة مشتركة، مما هزّ صورة الكيان الصهيوني، وهو يواجه سرايا القدس ندّاً لندّ.
أما من جهة أخرى، فيفترض في تقويم موازين القوى أن يلحظ ميلانها في غير مصلحة الكيان الصهيوني من جهة، ويلحظ ما أظهرته جماهير قطاع غزة من التفاف إيجابي وحماسي في مصلحة المقاومة، ولا سيما وهي ترى القيادة العسكرية الصهيونية مكبلة اليدين في استخدام ما تمثله من قوّة نيران، وسلاح وعديد، ومن ثم اقتصار ضربها للمدنيين على أسر الشهداء الذين اغتالتهم، وذلك خوفاً من تطوّر الحرب إلى مستويات أعلى، ولهذا مغزاه.
من هنا، فإن من خصوصية الوضع الفلسطيني الراهن وميزاته في مواجهة الاحتلال والجيش الصهيوني، أن احتساب موازين القوى يجب ألاّ يعتمد على احتساب مدى امتلاك قوّة نيران، أو دبابات، أو طائرات، أو حتى عديد؛ لأن ثمة عوامل أخرى مهمة يجب أخذها في الاعتبار، كعوامل ما يسود الآن من موازين قوى على مستوى عالمي وإقليمي، وما يعانيه الكيان الصهيوني من عزلة واهتراء داخلي، وعناصر ضعف ذاتية مرئية وغير مرئية. وإلاّ لا يمكن تفسير ظواهر مثل ثلة مسلحة من المقاومين في مخيم جنين، وعرين الأسود في نابلس، أو أخرى من المرابطين في المسجد الأقصى والقدس، أو المتحفزين في المخيمات والقرى والمدن في الضفة الغربية، كما لا يمكن تفسير ما حدث من تغيّر في الموقف الشعبي المقاوِم في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
هذا المتغيّر في ميزان القوى هو الذي يفسّر الانتصار الذي تحقق في حرب ثأر الأحرار، ولهذا أخطأ من اعتبر بروز السلاح في مخيم جنين أو عرين الأسود، أو المواجهات في القدس، والمسجد الأقصى، أو الردّ بالصواريخ من غزة على جرائم الاحتلال، بأن كل ذلك ضرب من المغامرة أو العقلية الانتحارية.
القول الفصل، في قراءة سمات الوضع الفلسطيني الجديد يحكمه الواقع العياني القائم أمام أعيننا، وأما المستقبل فلكل حادث حديث.
إن السمة التي يجب أن تلاحظ من الآن فصاعداً، تقول إن وضع المواجهة المسلحة في فلسطين (في الضفة والقدس والقطاع) أصبح حالة متواصلة تنذر، في أيّة لحظة، بانفجار الوضع من جديد. فهو وضع لم يعد من الممكن الرجوع به إلى الوراء، أي سيطرة الاحتلال على الضفة الغربية، خصوصاً في نابلس ومخيم جنين، وعلى مستوى عام، كما كانت في السابق، ولا كذلك سيطرة قوات الأمن الفلسطينية والتنسيق الأمني على الوضع في الضفة الغربية.
إن العودة إلى الوضع السابق، أي تصفية ظاهرة عرين الأسود أو كتيبة مخيم جنين، أو كبت ظهور كتائب المقاومة في المخيمات والقرى والمدن، يتطلب اشتباكات دموية تهدّد بالانفجار، والانتقال إلى مستوى الحرب الشاملة. هذا، ومن غير الممكن تجميد الوضع القائم الآن من دون اقتحامات واشتباكات محدودة، فضلاً عن انتهاكات لحرمة المسجد الأقصى، والمواجهات في القدس. وذلك كما كان الحال في شهر رمضان المبارك الفائت، والذي أوصل إلى حرب ثأر الأحرار.
هذا يعني أن على الشعب الفلسطيني في كل مواقع تواجده، كما على نخبه الناشطة، أن يجعلوا الأولوية لمواجهة سمات المرحلة الجديدة في الداخل الفلسطيني، والتي تتمثل في الاشتباك الدائم، ولو بتقطع، ولكن بمديات قصيرة. وذلك بالالتفاف وراء المقاومة في قطاع غزة، والمقاومة في عرين الأسود، وكتيبة جنين، والكتائب المتحفزة للبروز. وهذا الالتفاف هو الذي يترجم في الميدان بوحدة الشعب، كما وحدة فصائل المقاومة، كما الوحدة العملية للنخب وتكتلاتها، دون الحاجة إلى إطار جبهة وطنية شاملة، أو إعادة بناء م.ت.ف، أو دخول صراعات جانبية من أجل ذلك، كما حدث طوال سنين، وبلا جدوى. وما ينبغي للأطر التنظيمية أن تحكمنا، وإنما المحتوى والجوهري والأساسيات.
علينا أن نتوقع، بإلحاح، اندلاع معارك ستخاض بين المقاومة المسلحة في مواقعها داخل فلسطين، ومعها الداخل ضد الاحتلال والكيان الصهيوني، مما يفرض وحدة الموقف ووحدة التوجه والأولوية، على كل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وهذا إذا ما تحقق عملياً في الميدان، فإن تحقيق انتصارات متتالية على طريق تحرير فلسطين تصبح على الأجندة.
وهنا يجب التذكير مرّة أخرى بأن ميزان القوى العالمي والإقليمي، أصبح أكثر مؤاتاة للشعب الفلسطيني، وفي غير مصلحة الكيان الصهيوني الذي يعاني حالة تراجع وارتباك واهتراء ذاتي متواصل ومتفاقم. والدليل معارك واشتباكات السنتين الأخيرتين، وكيفية إدارته للصراع.
وسوم: العدد 1034