وثيقة كامبل بنرمان أحجية أم حقيقة
وثيقة "كامبل بنرمان" رجع إليها العشرات من الكتّاب والباحثين منذ أواسط القرن العشرين، والتي يعدونها أساساً لفهم خلفيات إنشاء مشروع يهودي صهيوني في فلسطين لدى القوى الإمبريالية الغربية؛ أصبحت أقرب إلى "الأحجية" لأننا لم نجد لها حتى الآن مصدراً علمياً موّثقاً، يمكن الاعتماد عليه وفق مناهج البحث العلمي.
ومنذ أشهر وأنا أتابع الجدل بين مؤكد وناف وجود مثل هذه الوثيقة، في حين انتشر مقطع فيديو على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي ينبه إلى هذه الوثيقة وخطورتها.
مركز عمون يؤكد على وجود الوثيقة اعتماداً على أنه هناك الكثيرون من أرباب السياسة ومنظريها ومن أصحاب القرار في العالم العربي لم يقرأوا بل لم يسمعوا بوثيقة بنرمان علماً بأنها أخطر وثيقة إجرامية وُضعت لاحتلال العالم العربي وإبقائه في عبودية ظلماء ظالمة لا أول لها ولا آخر.
ويؤكد على قيام حزب المحافظين البريطاني عام 1905 بتوجيه الدعوة إلى كل من فرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا لعقد مؤتمر يتم من خلاله وضع سياسة لهذه الدول الاستعمارية تجاه العالم وبالذات تجاه العالم العربي، وفي عام 1907 انبثقت وثيقة سرية عن هذا المؤتمر سموها " وثيقة بنرمان " نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بنرمان.
خبراء غربيون وجدوا -وفقا للوثيقة- أن في إنشاء كيان غريب (هو الكيان الصهيوني) في غربي البحر المتوسط وسيلة لإيجاد قلعة متقدمة ترعى المصالح الغربية، وتضمن ضعف المنطقة، وهو ما حدث ويحدث فعلاً بغض النظر عن صحة الوثيقة أو زيفها.
وفي الواقع جاء الكشف عن هذا التقرير المزعوم في نهاية الأربعينات، أي بعد أن تحول "الوطن القومي الموعود" في 1917 إلى "دولة إسرائيل" في 1948، ثم انتشر بشكل غريب في الأدبيات القومية العربية بعد أن روجت له النخبة القومية العربية في كتاباتها وندواتها ومذكراتها، حتى أصبح يشار إليه فقط باسم "تقرير كامبل- بنرمان" على اسم رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ليمثل الدليل القاطع على دور بريطانيا في خلق إسرائيل ويغطي في المقابل مسؤولية القيادات العربية (والفلسطينية بالتحديد) عما حدث في 1948.
وقد اشتركت مجموعة من كبار علماء التاريخ والاجتماع والجغرافيا والزراعة والبترول والاقتصاد في عقد مؤتمر حول هذا الموضوع، وأن هذا المؤتمر رفع توصياته سنة 1907 إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بنرمان.
ثمة وثائق وكتابات تشير إلى مضامين وسياقات قريبة أو داعمة لمعطيات وثيقة كامبل بنرمان المدَّعاة؛ فعندما التقى مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل برئيس الوزراء البريطاني جوزيف تشمبرلن سنة 1902، قال له هرتزل: إن قاعدتنا يجب أن تكون في فلسطين التي يمكن أن تكون "دولة حاجزة" بحيث تؤمن المصالح البريطانية.
التقرير استراتيجي بكل معنى الكلمة ولمّا يزل معتماً عليه فلم ينشره مصدّروه ولم يفرج عنه بشكل نهائي وقد مضى قرابة قرن على إصداره.
تحدث بعض الباحثين عن الإفراج عن التقرير، فالأستاذ محمد حسين هيكل – المعروف بدقة مصادره – أورد في كتابه “المفاوضات السرّية وإسرائيل” التوصية النهائية للتقرير تحت عنوان: ” وصية بنرمان.”
والباحث المحامي أنطون سليم كنعان أشار إلى التقرير في محاضرة له بعنوان “فلسطين والقانون” ألقاها سنة 1949 في كل من جامعتي فلورينو وباريس، وقد استند في معلوماته إلى مصادر إيطالية.
وقد نشر اتحاد المحامين العرب المحاضرة ضمن منشوراته التي غطت أنشطة مؤتمره الثالث الذي انعقد في دمشق 21-25 أيلول 1957 ص 457-489.
ومما أثار الشك حول حقيقة هذه الوثيقة أن ملف وثائق فلسطين -وكذلك غيره من المصادر-لا يذكر توثيقاً علمياً للوثيقة، فلا يوجد اسم للملف في الوثائق البريطانية، ولا الترقيم الخاص به، ولا تاريخه الدقيق، وما إن كان محفوظاً في مجموعات الخارجية البريطانية F.O، أو وزارة المستعمرات C.O، أو وزارة الحرب W.O، أو رئاسة الوزراء Prem وغيرها.
وقصة د. أنيس صايغ مع هذه الوثيقة قصة "شيّقة ومريرة"، وقد لخّصها في مذكراته "أنيس صايغ عن أنيس صايغ" في الصفحات 279-281. وفيها يذكر أنه عندما تولى رئاسة مركز الأبحاث حرص على الوصول إليها لأهميتها، لكنه لم يعثر على مصدر واحد موثق لها في عشرات المراجع والكتب التي أشارت إليها؛ والعديد منها لكتّاب موثوقين، حيث ظهر أن كل كاتب كان يحيل إلى الآخر في دوامة أو حلقة مُفرغة دونما نتيجة.
ولذلك فقد قرر د.أنيس التفرغ للبحث عنها -في بريطانيا- شهراً كاملاً قضاه في دار الوثائق البريطانية، ومكتبة المتحف البريطاني، وجامعة كامبردج حيث درس كامبل بنرمان وأودع في مكتباتها كل أوراقه الخاصة. كما انكبّ د.أنيس على فهارس جريدة التايمز في الفترة 1904-1907 فوجد فيها آلاف الإشارات إلى المؤتمر الاستعماري الإمبريالي، ولكنه لم يجد شيئاً عن الوثيقة نفسها.
وبعد عودته "الفاشلة" إلى بيروت أتيح له أن يعرف أن أول عربي أشار إلى وثيقة كامبل في كتاب منشور هو أنطون كنعان، فذهب إلى مصر حيث يقيم أنطون والتقى به بعد بحث وجهد، وفوجئ به يخبره أنه عندما سافر من فلسطين إلى لندن لدراسة القانون في أواسط الأربعينيات، التقى في الطائرة رجلاً هندياً كان يجلس إلى جانبه، وقال له إنه يتذكر أنه قرأ عن مؤتمر استعماري عُقد في لندن حضره مندوبون عن عدة دول استعمارية للتباحث في تقسيم البلاد العربية ومنع وحدتها وإقامة دولة يهودية؛ ولكن الهندي لم يزود كنعان بأي مادة علمية موثقة حول الوثيقة.
وهكذا يعود د. أنيس محبطاً فلا الهندي ولا كنعان اطلعا على الوثيقة الأصلية، ولا يملكان توثيقاً علمياً لها!!! وبالتالي قرر د.أنيس منع استخدامها أو الاقتباس منها في الدراسات الصادرة عن مركز الأبحاث الفلسطيني.
وبعد هذا الاستعراض، يمكن أن نثبت بعض الملاحظات والنقاط التي أشار إليها د.أنيس الصايغ:
1-إن انعقاد مؤتمرات استعمارية إمبريالية في تلك الفترة كان أمراً صحيحاً وحقيقياً، وتوجد في الوثائق البريطانية مئات الملفات والوثائق والشواهد حولها. غير أن نص الوثيقة المسماة وثيقة كامبل بنرمان غير موجودة بين هذه الوثائق.
2-إن عدم حصولنا على وثيقة كامبل لا يثبت بالضرورة أنها غير موجودة بالصيغة نفسها أو بأي صيغٍ مشابهة. ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع الادعاء بوجود شيء لم يثبت وجوده بشكل قاطع.
3-إن عدم وجود الوثيقة بين أيدينا يُفقدنا القدرة -من الناحية العلمية الموضوعية ووفق مناهج البحث العلمي- على استخدامها وثيقةً مرجعيةً، خصوصاً لما تتميز به من حساسية وخطورة. كما أن النتائج التي توصل إليها د.أنيس -بعد بحثه المضني- تشكك بشكل جدّي في حقيقتها.
وعليه فإن "وثيقة كامبل بنرمان" لا يصلح الاستشهاد بها علمياً ولا إعلامياً إلى أن توجد أدلة قاطعة عليها، وما يترتب على استخدامها من أضرار تمس المصداقية والموضوعية، وتفتح المجال للخصوم والأعداء للطعن والاستهزاء والإساءة، والإضرار بجوانب القوة الأخرى التي يملكها الباحثون المؤيدون للقضية الفلسطينية؛ هي أضرار أكبر من النفع التعبوي والإعلامي الذي قد يسعى إليه البعض بحسن نية.
وهذا يعني أن ثمة عملية غربلة متأنية مسبقة تتم للوثائق، تراعَى فيها المصالح العليا للدولة وأسرارها الخطيرة، وانعكاسات نشر الوثائق على الدول والمؤسسات والأفراد، وعلى الحلفاء والأعداء، وهذا قد يسمح باستنتاج أن ثمة وثائق يتم إخفاؤها أو إتلافها إذا كانت -حسبما يرى المعنيون-تضر بمصالح الدولة أو تتسبب في إدانتها.
إن الاستعمار البريطاني والقوى الاستعمارية هي بشكل عام من الذكاء والخبرة والحذر بحيث لا تضع وثائق كهذه -إن وجدت- بين أيدي الباحثين، بسبب ما تتضمنه من أدلة إدانة قاطعة، وفي بعض الأحيان يكون هذا النوع من التوجهات والتوجيهات والقرارات شفوياً أو غير مكتوب في نصوص موثقة، أو غير قابل للنشر والتداول، كما تفعل دول عديدة في وقتنا المعاصر.
ولعل مسار الأحداث على الأرض يدعم مضمون وثيقة كامبل، لكنه لا يكفي لإثبات صحتها من ناحية علمية، فقد تمّ إصدار "وعد بلفور" سنة 1917، وأصرَّت بريطانيا على أن تتولى بنفسها رعاية ونمو وتطور المشروع الصهيوني في فلسطين وإنشاء دولة يهودية، وقمعت إرادة الشعب الفلسطيني وسحقت ثوراته طوال ثلاثين عاماً (1917-1948) إلى أن اكتملت البنى التحتية "للدولة العبرية" عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً.
وتشكَّل في سنة 1948 كيانٌ صهيوني هو (الدولة العبرية) في قلب الأمة العربية والإسلامية، وهو كيان -من الناحية العملية على الأقل-يرتبط شرط بقائه وازدهاره بضعف وانقسام وتخلّف ما حوله، لأن المشاريع النهضوية الوحدوية الحقيقية التي تعبِّر عن إرادة شعوب المنطقة والأمة، هي بطبيعتها معادية وتُشكّل خطراً وجودياً على الكيان الصهيوني، الذي اغتصب قلب المنطقة العربية والإسلامية (فلسطين) وشرَّد أهلها.
إن ثمة وثائق وكتابات تشير إلى مضامين وسياقات قريبة أو داعمة لمعطيات وثيقة كامبل بنرمان المدَّعاة؛ فعندما التقى مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل برئيس الوزراء البريطاني جوزيف تشمبرلن سنة 1902، قال له هرتزل: إن قاعدتنا يجب أن تكون في فلسطين التي يمكن أن تكون "دولة حاجزة" بحيث تؤمن المصالح البريطانية.
فقد كانت الحركة الصهيونية تدرك أن مشروعها لن يكتب له النجاح إلا برعاية دولة كبرى وحمايتها، وكان عليها أن تعرضه في ضوء المصالح التي يمكن أن تجنيها القوى الكبرى.
وبشكل عام؛ فإن العامل الاستراتيجي كان سبباً رئيسياً في ذهن من اتخذوا قرار إصدار "وعد بلفور" (كنقطة اتصال ومواصلات، وكمنطقة حاجزة، وكقاعدة متقدمة…)، ونجد مثل هذه الإشارات الاستراتيجية في تصريحات لويد جورج رئيس الوزراء، واللورد كيرزون (الذي خلف بلفور في منصبه)… وغيرهم.
كما أن هربرت صمويل -اليهودي الصهيوني والوزير في الحكومة البريطانية التي كان يرأسها أسكويث H. Asquith- قدَّم مذكرة سرية للحكومة البريطانية في يناير/كانون الثاني 1915، طالب فيها باحتلال فلسطين وفتح باب الهجرة والاستيطان لليهود ليصبحوا أغلبية السكان، مشيراً إلى المزايا الاستراتيجية للسيطرة على فلسطين. خصوصاً أن هناك قدراً كبيراً من الوثائق والممارسات الاستعمارية الفعلية على الأرض تكشف مدى الدعم الاستعماري المقدم للمشروع الصهيوني، ومحاولة قطع الطريق على المشاريع النهضوية والوحدوية في المنطقة.
وبذلك، تنضم وثيقة كامبل إلى "بروتوكولات حكماء صهيون" وما يُعرف بـ"وعد نابليون 1798″ والتي لم تثبت أيضاً…، وما زالت تُستخدم في الأدبيات العربية والإسلامية دونما أدلة قاطعة على وجودها. وتبقى معايير المصداقية والموضوعية والتثبّت والتّبيُّن وموازين الجرح والتعديل -التي اشتهر بها المسلمون- أفضل "رأس مال" في التعامل مع معلومات أو تقارير كهذه.
المصدر
*الجزيرة-12/9/2017
*مركز عمون-14/9/2019
وسوم: العدد 1044