نحو تخليد هولوكوست غزة
لا خلاف مطلقا على أن القضية الفلسطينية حصلت -رغم الألم- على حزمة إنجازات غير مسبوقة في الجولة الحالية من نضالها ضد الكيان الصهيوني، ولسنا بحاجة إلى تعداد هذه الإنجازات التي كان أهمها تمكنها من سبر أغوار العجز التي عانت منه بشدة منذ وجدت عام 1948 في الملفين الخاصين بالإعلام والقدرات العسكرية.
ولقد تسببت متغيرات إعلامية لم تكن موجودة في الجولات السابقة من النزاع؛ مثل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وتوافر وسائل إعلام تقليدية عربية ودولية واسعة الانتشار عالميا لها سياسات إعلامية تتسم بالموضوعية كقناة الجزيرة، وتي أر تي التركية، وأر تي الروسية وغيرها، في تحقيق توازن نسبي في تدفق الأخبار بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، بخلاف ما كان قائما قبل عقود من سيطرة غربية شمالية تامة على تدفق أحادي للأخبار في العالم، وهو ما مكن المقاومة من عرض مظلوميتها ومشروعيتها للعالم، وبذلك انتصرت في أخطر الملفات التي عانت فيها بشدة.
أما الملف العسكري فقد كشفت الجولة الحالية عن نجاح المقاومة في تنمية قدراتها بشكل فاجأ الجميع؛ مما مكنها لأول مرة من إيلام العدو بقدر يتناسب نسبيا مع ما كان يسببه هو للشعب الفلسطيني من قبل دون رادع.
ونجحت أيضا في إنجاز ملفات أخرى أهمها: إهالة التراب على المنطلقات الدعائية الخاصة بسيناريوهات التطبيع، إذ مزقت الأردية المزركشة المخادعة التي كانت تتدثر بها، فضلا عن تحقيق وحدة الفصائل الفلسطينية وفرز المسارات الجيدة والفاسدة التي تنتهجها، وتعزيز الاعتقاد بأنه لا يفل الحديد إلا الحديد، ونجاحها أيضا في تأييد وحدة ساحات المقاومة العربية ووحدة الحواضن الشعبية.
مقاومة التعمية
ولا ينبغي نحن المعنيين بالقضية الفلسطينية أن نسمح بانكسار الإنجاز الأهم الذي تحقق بإعادة شرحها للعالم بطريقة صحيحة أكثر إنصافا من السردية التي روتها الدعاية الإسرائيلية وصدقها العالم خلال العقود الماضية، واستطاعت من خلالها وضع ترسانة قوية من الحواجز بيننا وبين إمكانية استجابة العالم لمظلوميتنا رغم وضوحها.
وتدرك الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حجم المأزق الذي وقعت فيه وكيف أنه تسنى لغزة وداعميها كسر حاجز التعمية العالمي الراسخ الذي أقامته، وذلك عبر نشرهم أكثر من 109 مليارات منشور في وسائل التواصل الاجتماعي منذ أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مقابل نحو 7 مليارات فقط لداعمي الكيان، طبقا للإحصاء الذي نشره موقع “كالكاست” الصهيوني القريب من “الموساد” بعد قرابة 50 يوما من طوفان الأقصى والعدوان على غزة.
ولم تساهم صدقية الأخبار التي نقلتها هذه التدوينات الموثقة بالفيديوهات والوسائط البصرية في تحول الرأي العام العالمي فحسب، ولكن ساهمت أيضا في إحداث تغير كبير في سياسات مواقع التواصل الاجتماعي ذاتها من هذه القضية.
ولعل الراصد سيدرك أن تلك المواقع قامت في بداية “الطوفان والعدوان” بحذف المنشورات الداعمة للحق الفلسطيني بصورة صارمة وصلت إلى إغلاق آلاف الحسابات، ولكن تدريجيا مع التدفق الهائل للأخبار اضطرت إلى التحلل من تلك الصرامة، خشية فقدانها مستخدميها، وسمحت بنشر ما لم تكن تسمح به من قبل، لذلك لا ينبغي أن نتوقف أبدا عن فضح الكيان بكافة لغات العالم، بعدما أدركنا جليا أن الكلمات صارت أقوى من الرصاص.
هولوكوست غزة
لا ينبغي أن ينتهي هذا الزخم بانتهاء العدوان على غزة، بل يجب العمل على تذكير العالم المستمر بـ”هولوكوست غزة”، وهو حدث حقيقي مثبت بالفيديوهات والوثائق والشهادات الدولية، وليس مبنيا على حسابات السياسة وشهادات المنتصر كما حدث في هولوكوست اليهود في ألمانيا، وأن نطالب العالم وأممه المتحدة بإطلاق هذا المسمى رسميا على تلك الأحداث، ولعلنا لو طالبنا بذلك الآن لنجحنا نظرا للتضامن العالمي الواسع معنا.
يجب أن نحتفظ بنسخ من الوسائط المصورة لهذا “الهولوكوست” في وسائط خارجية بعيدة عن شبكة الإنترنت بعد شكوك في وجود تقنيات متطورة يمكنها التسلل إلى حاسوبك أو هاتفك وحذف الفيديوهات التي تتم تغذيتها بمواصفاتها، كما حدث في الكثير من الفيديوهات التي تخص الجرائم الأمريكية في العراق التي لا تكاد تستطيع العثور عليها عبر شبكة الإنترنت الآن، إذ إنها حذفت من المواقع حتى دون علم أصحابها.
ويجب إنتاج أعمال فيلمية تصنيفية تجمع المتشابهات التي تحمل فكرة معينة، مثل “الإبادة” و”قتل الأطفال” و”الكذب” و”الخداع” و”الغدر” و”العنصرية ” وهكذا، وإعادة طرحها بشكل دوري في شبكات التواصل وعلى شكل تعليقات في الحسابات الشهيرة، وعبر المواقع والمدونات الشهيرة الناطقة بلغات العالم الرئيسية.
ويمكن للجهات المعنية وللأفراد إنشاء مواقع إلكترونية تخاطب العالم بهذا الخصوص، مع إنتاج وسائط يتم توزيعها يدويا في الفعاليات الغربية المختلفة لتعريف الناس بالقضية الفلسطينية، مع تزويد المناصرين للحق الفلسطيني بها، وتنسيق الخطوات التي يتم التركيز عليها طبقا لطبيعة المرحلة، ولا مانع من إنشاء جهة أو هيئة معينة تقوم بمثل تلك الأعمال بشكل منهجي ومدروس.
الجاليات المسلمة
ولقد لوحظ مؤخرا وجود آلاف الحسابات الصهيونية التي تُعنى بتشوية الجاليات العربية والمسلمة في أوروبا وأمريكا، والتحريض على تظاهراتها الداعمة لفلسطين ومقاومتها الباسلة، محاولة بشكل حثيث وخبيث خلق فجوة بين المسلمين وبين مجتمعاتهم الغربية، بهدف إظهارهم جسمًا دخيلًا على الغرب؛ وذلك عقابًا لتلك الجاليات على دورها الفعّال في التعريف بالقضية الفلسطينية في أماكن وجودها، ولمشاركتها الواسعة في التظاهرات.
لذلك يمكننا حث تلك الجاليات على الاستمرار في نشاطها التوعوي، والهرولة إلى الأمام حتى بعد انتهاء العدوان، مع تحذيرها من الفخاخ التي تنصبها لها الصهيونية وفضحها للرأي العام الغربي وتفكيكها.
المقاومون غسلوا بدمائهم غبار الصهيونية، ويقع علينا الإبقاء على وجه القضية لامعا.
وسوم: العدد 1061