العزة بالإثم تجعل من موقفٍ مجرد رأي وتصف آخر بهجوم شرس
بقدر ما كانت أحداث غزة مفاجئة، بقدر ما اتسمت مواقف وردود أفعال مختلف الأطراف المتفاعلة معها بالعفوية والتلقائية، متراوحة بين حَدَّي التأييد والشجب، بحيث نجد من جهة موقف المساندين للقضية الفلسطينية بصفة عامة وللمقاومة المسلحة بصفة خاصة مساندة مبدئية انطلاقا من إيمانهم الفعلي بحق الشعوب في استقلالها وتقرير مصيرها، ومن جهة أخرى موقف أولئك المداهنين، والمنافقين، الذين لا هُمْ إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهو موقف كان إلى حدود السابع من أكتوبر يَلُفُّه الغموض واللعب على الحبلين، ليتغير مباشرة بعد إنجاز حماس التاريخي في هذا اليوم، الذي أبهتهم وجعلهم يفقدون صوابهم، ويطلقون عنان ألسنتهم للتعبير بعفوية المذهول الذي يفقد سيطرته على وَعْيِه، لِتُتَاح الفرصة لِلَاوَعْيِه لِيُصرِّح بحقيقته التي طالما راوغ من أجل إخفائها والتستر عليها، والمتمثلة في كمية الغل والحقد الذي يملأ صدور هؤلاء إزاء القضية الفلسطينية، حتى وصف أحدهم الفلسطينيين بالحيوانات، وآخر صنف مجتمعا كاملا بالإسرائيلي، باستعماله لنون الجماعة في تعبيره "كلنا إسرائيليون"...
ومع مرور الوقت، وتَغيُّر موازين القوى لصالح المقاومة، رغم الخسائر الفادحة في الأرواح على الخصوص، بحيث انقلب مجمل الرأي العام الغربي على حكامه، وعبر من خلال مسيراته الحاشدة على استعداده لمساندة المقاومة، آخذا بعين الاعتبار بأن حماس ليست منضمة إرهابية، كما يروج لذلك الإعلام الغربي المأجور، وإنما هي منظمة تَحَرُّر تكافح من أجل نيل استقلال بلادها، على غرار جميع منظمات التحرر العالمية، هذا في الوقت الذي استنكر فيه إجرام الكيان الصهيوني في حق الفلسطينيين العزل، من نساء وأطفال وشيوخ، مع العلم أن هذا الموقف قد تَعزَّز بموقف عدد من الأنظمة التي تحترم شعوبها، وتقدر قيمة الحرية، كحق من حقوق الإنسان الكونية. قلت مع مرور الوقت، وبعد التأكد من استحالة أو على الأقل صعوبة القضاء على المقاومة، استعاد بعض أولئك الذين كانوا يعتقدون بسهولة إبادتها وَعْيَهُم، خاصة بعد الانتقادات الصارمة التي وُجِّهت لهم، وحاولوا تدارك الموقف، والرجوع إلى موقفهم الاعتيادي المتذبذب، وأنا لهم ذلك، لأن صورتهم المشوهة التي كشف عنها لاَوَعْيُهُم، لا يمكن لِوَعْيِهم ترقيعها مهما اجتهد في تنويع المراهم والدهون، وهو ما حاول أحدهم القيام به، عندما خرج علينا بمقال يصف فيه مواقفهم بأنها مجرد آراء، ينبغي احترامها في إطار الديموقراطية وحرية التعبير، محاولا بذلك تبرير موقف ذلك الذي وصف المقاومين بالحيوانات، وذلك الذي وصف المغاربة بالإسرائيليين باستعماله عبارة كلنا إسرائيليون، هذا في الوقت الذي ندد فيه بالذين استنكروا هذين الموقفين واصفا موقفهم "بالهجوم الشرس على كل من سولت له نفسه مناقشة المقاومة الفلسطينية في أساليب نضالها أو حاول انتقاد تصرفات قادتها". والسؤال الذي يُطرح على هذا الشخص، وغيره ممن تبنوا موقفه بهذا الخصوص هو: ما هي المعايير التي تم اعتمادها لإطلاق صفة "رأي" على تصريحٍ يصف المقاوم الفلسطيني بالحيوان، والمواطن المغربي بالإسرائيلي، مع العلم أنه لا أهل فلسطين طلبوا من أحد أن يملي عليهم أساليب نضالهم ولا تصرفات قادتهم، ولا المغاربة فَوَّضوا لأحد أن يُغيِّر هويتهم وينسبها لأقذر هوية على وجه الأرض، هذا في الوقت الذي وصف فيه رأي المستنكرين لمثل هذه التصريحات بالهجوم الشرس، علما أن موقفهم أو رأيهم هذا لم يتجاوز حد التعبير الإنشائي لا غير. لذا فعلى هذا الذي وُصف في بداية المقال بأنه إعلامي مغربي، أن يعلم أن الإعلامي النزيه لا تأخذه العزة بالإثم، ولا يكيل بمكيالين، ولا يسعى لقلب الحقائق مهما كان الثمن، وأن ما صرح به صاحباه سواء سماه رأيا أو موقفا أو أي شيء آخر، لا يختلف في جوهره عن موقف أي إسرائيلي متعصب لهويته الإسرائيلية، يتهم المقاومة بالإرهاب وينعت المقاومين بالحيوانات، فيما يصف الإبادة الجماعية للفلسطينيين من قبل الاحتلال الصهيوني بكونها دفاع عن النفس، وهو موقف يُعبر بشكل صريح عن كون هذين الشخصين، وكل من حذا حذوهما بأنهم أبواق للغرب وللصهيونية، ومستأجَرين لديها، لتزوير الحقائق والتدليس عليها، وأنَّا لهم ذلك، لأن الواقع عرَّى سَوْءاتِهم، وأصبحت بادية لكل ذي عقل حصيف.
في الأخير أقول لهؤلاء، إن أسعفتهم آذانهم على السمع، وقلوبهم على الفقه والاستيعاب، بأن الكلمة مسؤولية وموقف، يتعين تحمل تبعاته مهما كانت بمجرد النطق بها، وليعلموا أن أهل الجاهلية كانوا أدرى بقيمتها منهم، عندما رفضوا النطق بشهادة لا إله إلا الله التي كان رسول إله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليها، لأنهم ببساطة كانوا يعلمون تبعاتها، أما اللعب على الحبلين كما يقال، فهذا أمر يُدرِج صاحبه في خانة المنافقين الذين وصفهم الله في الآية 143 من سورة النساء:﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾، والمغرب والأمة الإسلامية لا يعوزها لا المنافقون، ولا الذين لا يقدرون الكلمة وقيمتها حق التقدير.
وسوم: العدد 1061