حزب العمل الإسرائيلي والقيادات المغمورة
د.مصطفى يوسف اللداوي
هل مات حزب العمل الإسرائيلي واندثر، وانتهت أحلامه وغارت طموحاته، وولت عهوده الأولى، وزمانه القديم، الذي لم يكن ينافسه من الأحزاب أحد، أو يفكر بالوقوف في وجهه تحالفٌ أو ائتلاف، فقد كان الحزب الأكبر والأقوى، والأكثر شمولية والأوسع انتشاراً وامتداداً، وهو الذي تولى زعيمه الأول دافيد بن غوريون حكومة الكيان الأولى بعد التأسيس، وكان واحداً من بين سبعة رؤساء حكومةٍ من الحزب قادوا مع آخرين الكيان والجيش ووزارة الدفاع الإسرائيلية، وخاضوا معاً كل الحروب الإسرائيلية مع الدول العربية، وحقق بعضهم انتصاراً على الجيوش العربية، بينما فشل آخرون أمامها، ومنوا بهزيمةٍ نكراء، كانت إيذاناً واضحاً وصريحاً ببداية أفول شمس حزب العمل العالية، والتي كان منها بن غوروين وشاريت ودايان ورابين ووايزمان وبن آلعيازر وفانس وبيريس وغيرهم.
يبقى حزب العمل الإسرائيلي الذي أفلت نجومه، ورحل قادته، وذهبت حظوته، ولم يعد له ذاك النفوذ أو التأثير الذي كان، هو أكثر الأحزاب الإسرائيلية التي آذت الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة العربية كلها، بل لعله فاق في سوءه وخطره، وفي بغيه واعتدائه، وفي تسلطه وقهره، الأحزاب الدينية واليمينية الصهيونية المتشددة، فهو الحزب الذي تولى منذ تأسيس الكيان الصهيوني وزارة الدفاع في أغلب الحكومات، وكان منهم قادة الأركان، وقادة المناطق العسكرية، الشمالية والجنوبية والوسطى، وهم الذين كانوا يجردون أشد الحملات العسكرية على الشعب الفلسطيني في الداخل، يقتلون ويعتقلون ويطردون، ويصدرون أوامر الهدم والطرد والترحيل والإبعاد، والإغلاق والحظر والمصادرة.
بل إن قادة حزب العمل الإسرائيلي هم الذين تولوا كبر مواجهة انتفاضات الشعب الفلسطيني الأولى والثانية، وهم الذين انتهجوا سياسة تكسير الرؤوس وتهشيم العظام، وضرب الفلسطينيين بالعصي والهراوات حتى تدمى أجسادهم، وتسيل منها الدماء بغزارة، وهم الذين قتلوا الأسرى، ودفنوهم في بطن الأرض أحياءَ، ولعل وايزمان وبن آليعايز وفانس بالإضافة إلى اسحق رابين، كانوا الأشد في مواجهة الشعب الفلسطيني وقمع انتفاضته، وإنهاء ثورته، ففتحوا له السجون والمعتقلات على مصراعيها، وزجوا بعشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني فيها، ظناً منهم أنهم سيركعون هذا الشعب، وسيخمدون انتفاضته، وسينهوون ثورته، وسيقضون على أحلامه وطموحاته وتطلعاته.
يختار حزب العمل الإسرائيلي اليوم، بعد سلسلةٍ من الاخفاقات المدوية، والسقطات الكبيرة، وخيبات الأمل المتتالية، زعيماً جديداً، وقائداً آخر له، ولكنه لا يختلف عن الآخرين، ولا يتميز عن السابقين، ممن جاؤوا بعد اسحق رابين، الذي كان آخر الزعماء الأقوياء لحزب العمل، والذي كان رئيساً للحكومة الإسرائيلية ووزيراً للدفاع أكثر من مرة، علماً أنه كان قائداً لأركان الجيش الإسرائيلي إبان حرب يونيو 67، وقد كان على رأس القادة العسكريين الإسرائيليين الذين دخلوا الشطر الشرقي من مدينة القدس، ما يجعله آخر أقوى قادة حزب العمل الإسرائيلي، وجنرال الكيان الأكبر.
فقد نجح في الانتخابات الداخلية الأخيرة لحزب العمل العتيد عضو الكنيست الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، وحل محل زعيمته السابقة، شيلي يحيموبيتش، الذي لا تأتي الأخبار على اسمها، ولا تحمل الأحداث طابعها، ولا تترك في السياسة الإسرائيلية أثراً، فهي مغمورةٌ كسابقيها، ومجهولة الهوية كخلفها، ولا يعتقد أن يكون له ولحزبه العجوز دورٌ أو أثرٌ في السياسة الإسرائيلية، كما لم يكن لآخر سابقيه، عدا أيهود باراك، الذي ارتضى دوماً أن يكون أداةً في يد رؤساء الحكومة الليكوديين أصلاً، أو المتحولين منه والمنشقين عنه، فكان في إدارته لوزارة الدفاع أشد وأنكى من أي شخصيةٍ يمينيةٍ صهيونيةٍ متشددة.
مخطئ من يصنف حزب العمل من الحمائم، في الوقت الذي يصنف فيه حزب الليكود وحيروت والأحزاب الدينية واليمينية المتشددة، بأنهم من الصقور، وأنهم أكثر تشدداً وتطرفاً من حزب العمل، ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، فحزب العمل الذي كان يحرص على الظهور بوجوهٍ ناعمة، وأيدي لطيفة، ويتحدث بلغةٍ هادئة، كان يخفي خلفها وجوهاً صلدةً قاسية، ويلبس في يدية قفازاتٍ تبدو بيضاء، ولكنه أيديه كانت ملوثة بالدماء، وترتكب في حق الشعب الفلسطيني أبشع الجرائم، وأشدها فحشاً وضراوة، ما يجعله أشد وأنكى، وأكثر سوءاً ومقتاً من الأحزاب اليمينية، وإن كانوا جميعاً سواءً، لا يختلفون في شئ، ولا يتمايزون إلا في خبثٍ ومكر، ولا يتفاضلون إلا سوءٍ وشر، فطبيعتهم واحدة، تجمعهم الصهيونية، وتوحدهم أفكار الإبادة والقتل والترحيل والطرد، والإحلال والاستيطان.
لن يختلف رئيس حزب العمل الجديد عن أسلافه، وإن كان أقل منهم قوة، وأضعف حيلة، مغموراً لا يسمع به أحد، ومجهولاً لا تعرفه المنابر السياسية، ولو كان وزيراً لشؤون الرفاه الاجتماعي، أو ابناً لرئيس الكيان الصهيوني السابق حاييم هيرتزوغ، إلا أنه سيعود إلى سياسة حزبه القديم، الذي تفانى في خدمة الكيان، وترسيخ قواعده، ورفع أسسه وأركانه، ولو كان على حساب شعبٍ آخر، وحقوق وحياةِ أمة، فسيتحالف مع الليكود، وسيقبل أن يكون تابعاً لنتنياهو، لأنه يحمل ذات الأفكار، ويؤمن بنفس المبادئ، ويعمل لتحقيق ذات الأهداف.
هل يكون أفول نجم حزب العمل، وريث الهاغاناة والبلماخ، إيذانٌ بأفول القوة الإسرائيلية، وانتهاءُ الهيمنة الصهيوينة، أم أن زعيمه الجديد الذي أعلن على صفحته أن هذا الانتصار هو البداية، وأن ما سيتلوه سيكون أكبر، استعادةً للأمجاد، وإرثاً للآباء والأجداد، وعودةً إلى القيادة والرئاسة والحكومة.