قبل «طوفان الأقصى» وبعدها
إن «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، وما بعدها، تفرض أن يُقرأ ما قبلها، وذلك من الناحية العسكرية، إعداداً وتدريباً وتصنيعاً للسلاح وتسليحاً، هذا من جهة، وأن نتوقف عند الأنفاق التي تحوّلت أن تكون مدينة تحت مدينة، من جهة أخرى. وكان لهذا أثر حاسم في تغلّب المقاومة في الحرب البريّة، ومن ثم انتصارها. هنا باختصار بُذلت جهود خمسة عشر عاماً من العمل الكدود المثابر والتضحيات. وحتى إن أعداداً من الشهداء ارتقوا في أثناء حفر الأنفاق.أمّا من جهة خاصة، فيجب التوقّف عند حرب «سيف القدس» التي أطلقتها، وأشرفت عليها، القيادة نفسها التي صنعت السابع من أكتوبر، وما بعده. «سيف القدس» اندلعت دفاعاً عن المسجد الأقصى والقدس، معلنة: أن سلاح المقاومة في غزة هو سلاح المسجد الأقصى والقدس والضفة الغربية. أي لم يعد سلاحاً محصوراً بقطاع غزة، وإنما أصبح سلاح القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. وذلك كما عبّر عن نفسه في السابع من أكتوبر، وحتى الآن، وغداً، بمشيئة الله.
«سيف القدس» 2021 تحوّلت في اللحظة نفسها إلى انتفاضة شعبية في مناطق 1948، وانتفاضة تظاهرات في الضفة الغربية. الأمر الذي جعلها بداية لمرحلة جديدة، اتّسمت بنمو ظاهرة العمليات الفردية التي سُمّيت ظلماً بالذئاب المنفردة. صحيح كانت عمليات قام بها أفراد أبطال أمثال محمد غالب أبو القيعان (بئر السبع)، خالد إغبارية وأيمن إغبارية (الخضيرة)، ضياء حمارشة (بني براك)، ورعد حازم (دوزينغوف في تل أبيب)، ويوسف عاصي ويحيى مرعي (بيت إيل)، وأسعد الرفاعي وصبحي الصبيحات (إلعاد)، وأمير الصيداوي (عملية القدس) وعدي التميمي (مخيم شعفاط)، ولكنها كانت تعبيراً عن إرادة شعبية، بدليل تبني عشرات الآلاف لها في الجنائز، ولا سيما مواقف أمهات الشهداء وآبائهم. ثم تطوّرت هذه العمليات من خلال ظهور «كتيبة جنين»، ومن بعدها «عرين الأسود» (إبراهيم النابلسي) في نابلس. ثم سرعان ما أخذت عدواها تبرز في مخيمات أخرى، وتختفي لتعود. صاحَبَ هذه الظاهرة في الأشهر العشرة السابقة للسابع من أكتوبر، اشتداد الاقتحامات للمسجد الأقصى والسعي لتقسيم الصلاة فيه.
قبيل السابع من أكتوبر تأزّم الوضع في الضفة الغربية من خلال تهديد جيش العدو باقتحام مخيم جنين، ونابلس، وطولكرم، ومخيم بلاطة، وعقبة جبر، لأن ظهور السلاح علناً ينهي حالة الاحتلال الصهيوني. وكذلك تفاقم وضع الاقتحامات في المسجد الأقصى، مع تهديدات بن غفير وغيره، بذبح القرابين فيه، وهو ما لا يمكن قبوله والسكوت عنه.
ومن ثم أصبحت الحرب الشاملة على الأجندة بكل لحظة، منعاً للقضاء على ظاهرة الكتائب المسلحة التي أصبحت: خطاً أحمر، أي كما الانتهاك الخطير للمسجد الأقصى، وتغيير الواقع فيه قد أصبح أيضاً، خطاً أحمر.
وبهذا تكون «طوفان الأقصى» قد جاءت في أوانها، ولكن بمستوى أعلى كثيراً من مستوى حرب شاملة، كما عهدناها في حرب 2008/2009 و2012 و2014 و2021. إن العملية أطلقت حرباً شاملة، لا مثيل لها في تاريخ الشعب الفلسطيني، في الصراع مع المشروع الصهيوني. وقد اختلفت نوعياً عما عُرف في حروبه المذكورة أو حربَي «وحدة الساحات» و«ثأر الأحرار». ونقطة الاختلاف الجوهرية أن الحروب التي سبقتها اتّسمت بتراشق الصواريخ، مع تفوّق الكيان الصهيوني بقوة النيران، وسلاح الطيران والصواريخ، كما القبة الحديدية دفاعاً. ولكن من جهة أخرى، كان هنالك تفوّق للمقاومة في غزة على مستوى ميزان القوى السياسي العام، وعلى المستوى الجديد من الصمود، وتطوّر القدرة البريّة، كما ظهر بصورة خاصة في حرب 2014، هذا إلى جانب ضعف قدرات الجيش الصهيوني، عما كانت عليه من قبل. وهو ما تكشّف بوضوح في هزيمته بحرب 2006 في جنوبي لبنان، وانتصار المقاومة عليه (لم يعبّر عنه قرار 1701 الظالم)، ومن ثم تراجُع هيبته التي حملت في السابق صفة الجيش الذي لا يُقهر. هنا أيضاً لعب ميزان القوى العام دوراً معزّزاً لدور المقاومة، الذي بلغ أوْجه في مقبرة الدبابات في وادي الحجير.
نقطة الاختلاف الجوهرية بحلتها الجديدة في السابع من أكتوبر، وما بعدها إلى اليوم، هي انتقال المقاومة للهجوم المفاجئ من خلال انقضاض جوّي وأرضي للاشتباك المباشر مع فرقة غزة من نخبة الجيش الصهيوني، ومع «ميليشيا المستوطنات» التي تمت السيطرة عليها كذلك. وجاءت نتيجة هذا الهجوم عموماً، كما الاشتباك مع الجيش، مُبهرة، بسبب انهيار الجيش واستسلامه للأسر، أو فراره حيث أمكن. الأمر الذي بدا في ذلك اليوم، وما تلاه، كأن الكيان الصهيوني كله يؤذن بالتداعي، أو الانهيار. فكان ذلك سبباً لهرولة رؤساء الدول الغربية، وفي المقدّمة الرئيس الأميركي جو بايدن، لإعلان الوقوف إلى جانب الكيان عسكرياً وسياسياً. وقد تشكّلت فوراً قيادة مشتركة أميركية صهيونية للرد العسكري والسياسي، ونقل الحرب بأسرع ما يمكن من غلاف غزة إلى قطاع غزة.
وبهذا أصبحت المقاومة في قطاع غزة تواجه حرباً عالمية، لم يسبق لها مثيل، ليس بسبب المشاركة الأميركية المباشرة (أو شبه المباشرة)، وبدعم أوروبي، فحسب، وإنما أيضاً بإرسال حاملات للطائرات إلى البحر المتوسط، تهديداً بالتدخل، ضد كل من يوسّع الحرب إلى جانب المقاومة في غزة.
كان هذا كله كافياً لفرز هذه الحرب عمّا سبقها من حروب، لتكون حرباً من نمط جديد كل الجدّة.
واستطاعت أميركا وأوروبا، ولنقل في الأسبوع الأول، نشر حملة إعلامية وسياسية واسعة جداً ضد «حماس» واعتبارها «داعش»، مع إشاعة حملة من الأكاذيب المخترعة حول أطفال قُطعت رؤوسهم أو وُضعوا في الأفران، أو حالات اغتصاب، وقتل الأسرى والتنكيل بهم. وقد اعترفوا لاحقاً بأنهم لفّقوها.
طبعاً في البداية، لم يكن من الممكن كسر هذه الحملة إعلامياً وسياسياً. فالعالم كله كان مذهولاً من التفوّق العسكري للمقاومة، والاندحار العسكري للجيش الصهيوني «الرابع في العالم»، أو الذي لا يُقهر أو يُهزم، بالمستوى الذي حدث في «طوفان الأقصى».
تلخّصت استراتيجية الرد التي صيغت أميركياً- صهيونياً بشنّ حربين: حرب إبادة جماعية موجّهة ضد المدنيين، وضد المساكن والمساجد والكنائس، والأحياء والمستشفيات. وذلك من خلال قصف جوّي، بالطائرات الأميركية الصنع، لا يهدأ ساعة بعد ساعة، ونهاراً وليلاً، ويوماً بعد يوم، حتى تعدّى الثمانين يوماً، ولا يزال. وقد كلّف أميركا مدّ جسر جوّي متواصل لإمداده وتعويضه بعشرات آلاف القذائف وغيرها من الاحتياجات: دبابات وآليات وجرافات.
*إنّ مراجعة لميزان القوى العالمي لا تترك شكاً في أنه اتّجه، وما زال متّجهاً، في غير مصلحة الكيان الصهيوني*
أمّا الحرب الثانية، فهي الإعداد لحرب بريّة تقضي على قيادة المقاومة ومسلحيها، ويُعاد احتلال قطاع غزة، وإعادة تركيبه السكاني والأمني من جديد. طبعاً مع تحقيق هدف التهجير واسترجاع الأسرى عنوة واقتداراً.
سرعان ما راحت حرب التدمير الشامل والإبادة البشرية تنقلب على أميركا والكيان الصهيوني، بتظاهرات عالمية شملت الشعوب العربية والإسلامية والأميركية والأوروبية والعالم ثالثية، حيث أخذت تسوء وجوه قادة الكيان الصهيوني وأميركا، لتلحق بها سمة مجرمي الحرب، ومجرمي إبادة، ومنتهكي القوانين الإنسانية والدولية، والقوانين الدولية بعامة، وحقوق الإنسان. وهو ما لا تحتمله أميركا في النهاية، وما سيدمّر سمعة الكيان الصهيوني تدميراً. وقد يلعب دوراً في تقرير رحيله من فلسطين.
بكلمة، بالرغم من الخسائر الفادحة بعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، وثلثي العمار في قطاع غزة، إلا أن الكيان الصهيوني والقيادة الأميركية خسرا معركة الرأي العام، كما المعركة الأخلاقية والقيمية. وهذان البعدان وزنهما ثقيل في الميزان.
أمّا المعركة البرّية فمحكومة بالسمات التالية:
قوات المقاومة وقياداتها وكوادرها وأفرادها (بالآلاف) في الأنفاق يقفون في الدور بانتظار هجوم دبابات العدو وآلياته ومشاته. أمّا الهجوم من جانب جيش العدو فليس أمامهُ من هدف دفاعي، وإنما عليه أن يقتحم بدباباته وآلياته، ويوضّعها في نقطة، أو يرسِل مشاته إلى بيت مدمّر ليتعرض لهجمات المقاومين، الذين سيخرجون إليه من فوهات الأنفاق الخَفية. من هنا فإن خسارة المعركة البريّة مضمونة بالنسبة إلى جيش العدو، في مواجهة مقاومة مركزية القيادة، قواتها تتحرك بدقة وانضباط عاليين، فضلاً عما يتمتع به أفرادها من إيمان استشهادي، وتدريب، ومهارة، من الدرجة الأولى. وهذا فضلاً عن امتلاك المقاومة لزمام المبادرة.
هذا كله مبني على وقائع تجربة الحرب البريّة التي دامت شهرين على الأقل، فضلاً عن تجربة الأيام الأولى من 7 أكتوبر 2023.
وهذا ما كان يجب أن تأخذه، في الاعتبار، القيادة العسكرية الصهيونية. ولكنها فقدت صوابها من صدمة 7 أكتوبر، فسيطرت عليها عقلية الانتقام والعنجهية والغرور وتغليب الرغبات والأمانيّ، في موازين القوى، ووقائع الميدان، والخسائر المحقّقة طوال شهرين من الهجمات الفاشلة.
إنّ مراجعة لميزان القوى العالمي لا تترك شكاً في أنه اتّجه، وما زال متّجهاً، في غير مصلحة الكيان الصهيوني في أبعاده التالية:
أ- على مستوى الرأي العام العالمي وخاصة الأميركي – الأوروبي (الأهم بالنسبة إلى الكيان الصهيوني) فقد اتّجه ضد الكيان الصهيوني، وضد الموقف الأميركي الذي يغطيه. وهو متجه إلى المزيد.
ب- جبهة دول الغرب تصدّعت وأصبحت أميَل إلى الضغط لوقف الحرب.
ج- الموقف الأميركي المزدوج تحرّكت ازدواجيته الراهنة في غير مصلحة نتنياهو، وأخذت تضغط لتخفيف الخسائر، واتباع استراتيجية أخرى. وهو ما سيضع الحَبّ، موضوعياً، في طاحونة المقاومة.
د- أصبح الموقف الدولي: 153 دولة صوّتت في هيئة الأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار ضد الموقف الأميركي الذي لا يزال يغطي استمرار الحرب.
أمّا ميزان القوى على المستوى الإقليمي، فبالإضافة إلى دوره في المستوى العالمي، فقد فُتحت جبهة جنوب لبنان/شمال فلسطين، ولو بحدودها المسيطر عليها، ما يُسهم في زيادة مأزق الكيان الصهيوني عسكرياً، ويزيد من أعبائه. وكذلك عمليات المقاومة في سوريا والعراق ضد القواعد الأميركية، وبالرغم من محدوديتها، إلاّ أنها تربك الموقف الأميركي بسبب تهديدها بالتصعيد أكثر. ثم هنالك التحرك اليمني، أكان على مستوى التصدي للبواخر المتجهة إلى الكيان الصهيوني، أم كان على مستوى توجيه مُسيّرات وصواريخ باتجاه أرض فلسطين، يُشكل عامل إرباك، شديد الأهمية، ضد أميركا، وشديد الخطورة على التجارة الدولية، في غير مصلحة الكيان الصهيوني، مع خطر تصعيده يوماً بعد يوم، ما يزيد من تحدّيه لحرية الملاحة الدولية، وتأزيم الوضع الدولي عموماً.
إنّ ميزان القوى، بصورته الشاملة أعلاه، حين يُضاف إلى نتائج حرب الإبادة السلبية على الكيان الصهيوني وأميركا، وإلى نتائج الحرب البريّة المحسومة نتيجتها في مصلحة المقاومة، يجعل من الضروري وضع الاستراتيجية الأميركية – الصهيونية، في الرد على حرب «طوفان الأقصى»، في حكم الاستراتيجية المتخبّطة، بل الحمقاء، والفاشلة، فضلاً عما تتّسم به من إجرام بحق المدنيين، ومن مقامرة خاسرة في الحرب البرية.
وسوم: العدد 1064