طوفان الأقصى وإعادة تشكيل الشخصية المسلمة
أعاد طوفان الأقصى طرح إشكالية تنشئة المجتمع المسلم بين المميزات الذاتية وقولبة العولمة وذلك من خلال ملاحظة النقائص المسجلة في شعوبنا في الموقف من الحرب على غزة، ليعيد التأكيد أن الشعوب لا تنشأ جبانة ولا جاهلة ولا منافقة لكن النظام التربوي والثقافي والإعلامي المسيطر على المجتمع هو الذي يصنع ذلك، وكان يمكن أن يوجه هذه الشعوب نحو قيم الرجولة والشجاعة والمسؤولية، فالعجز عن مواجهة التحديات المصيرية والانسحاب من الحرب على غزة والاشتغال بدل ذلك بكرة القدم ونحوها من أساليب اللهو إنما هو نتيجة حتمية لمناهج صناعة الجهل والتخلف والعبيد، وقد أبلى طوفان الأقصى بلاء حسنا في إعطاء النموذج الحي المجسد الميداني لما تصبو إليه الأمة من فاعلية وإقدام وشموخ، وها هو الرأي العالمي أصبح يحترم حماس ومن ورائها العرب ومن خلفهم المسلمين حتى فشت في هذه الأشهر ظاهرة اعتناق الإسلام بين الغربيين، ولأول مرة منذ نشأة الكيان الصهيوني عرفت الشعوب الغربية حقيقته واكتشفت أنه عبارة عن عصابات إرهابية فاشية، وعرفت قضية فلسطين عن كثب ووقفت على عدالتها مما يؤشر على تحوّل حتمي في السياسات الغربية على المدى المتوسط والبعيد، ولم يحدث كل هذا إلا لأن حماس أحسنت صناعة الإنسان المسلم الواعي المجاهد، وهذا يحيلنا على حتمية تغيير مناهج إعداد الأجيال على الأقل على مستوى العمل الشعبي، وإحياء العمل التكويني الموازي المستقل عن الأجهزة الرسمية بواسطة النشاط الدعوي والإعلامي والتربوي، إعداد يقع على كاهل المربين والدعاة والرساليين على جميع المستويات، وهو مهمة عاجلة يمكن أداؤها باستنساخ النموذج الباديسي في العمل بالوسائل والإمكانات الذاتية، وتتمثل المهمة الآنية في شروع الخطباء والمدرسين والمربين، وعبر كل الوسائل المتاحة، من فيسبوك إلى يوتيوب إلى الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، في إحياء سيرة القدوات الصالحة في تاريخنا الإسلامي الزاخر، بدءا بالعلماء الربانيين العاملين والأبطال الذين سجلوا صفحات من المجد والسؤدد في التمكين للدين وخدمة الأمة ودحض الأعداء وفتح المصار، من أمثال الإمام العز بن عبد السلام الذي أرغم الأمراء على الرضوخ لشرع الله، وشيخ الإسلام بن تيمية الذي كان يأمر الحُكام وينهاهم، وأبلى البلاء الحسن في الدفاع عن الشام في وجه التتار، وأسامة بن زيد الذي قاد جيشا فيه كبار الصحابة وعمره 17 عاما، وخالد بن الوليد، وصلاح الدين الأيوبي، وسيف الدين قطز، ومحمد الفاتح، وصولا إلى قامات جمعت بين العلم والجهاد، من أمثال الأمير عبد القادر وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي...وهذه مجرد عيّنة لشخصيات رفيعة المستوى والقدر يحسن بنا إحياء سيرتها في ضوء طوفان الأقصى المجيد، والقائمة طويلة، وهذا من أوجب الواجبات لنقدم للأجيال بديلا جيدا عن القدوات التافهة التي راجت بضاعتها كالمطربين والممثلين واللاعبين.
وهذا الذي أشرت إليه واجب الوقت وفرض ديني ومجتمعي لا يجوز تأخيره، فقد رأينا غزة تُباد على أعين الجميع وفي العرب والمسلمين من قلبُه معلق بكرة القدم، يموت عليها ويحي، ويضحك ويبكي، ويبذل مهجته ويرتمي في هواها بكليته لا يلوي عن شيء غيرها حتى غدت القضية قضية عقيدية إلى أبعد حد، فيها صنم تربع على عرش القلوب واستولى على الألباب بشكل يكاد يخدش التوحيد، كيف لا ومسلمون يتلذذون بجلد منفوخ غير مبالين بالإبادة الجماعية التي يعيشها المسلمون في غزة؟ وهل يحق لعاقل أن يضحك ويلهو ويسرح ويمرح وفي بيت جاره جنازة؟ بل والجنازة في بيته هو؟ إن التنشئة الواجب الشروع فيها من شأنها أن تذهب عن المسلم الحق الخوف والتهيّب والتيه لتضع قدميه على طريق العزة ومقتضياتها، ليقول – أينما وُجد -:أنا ابن العقيدة أحب فلسطين وكل بلاد المسلمين وأذود عنها نيابة عن الذين باعوها"، إنها تنشئة تقول للمسلم:ماذا يعني انتماؤك لمحمد صلى الله عليه وسلم؟
إذا لم تكن في جهاد ومجاهدة ومثابرة وصبر واصطبار وحركة في سبيل الله بالليل والنهار وبذل وعطاء وغيرة على الدين وفجيعة لفجيعة المسلمين كفجيعة الأهل فأنت لا تنتمي إليه، وإنما تنتمي لدين السلامة الذي اختلقته لنفسك ...ولعل أول خطوة في منهج التغيير المنشود لبلوغ التزكية الفردية والجماعية
التحرر من منتجات الترفيه الحديثة التي شوّهت الجيل وألقت به في متاهات الإلهاء والعبث، مثل هو
مباريات كرة القدم والدوريات والبطولات، الأفلام والمسلسلات، الألعاب الالكترونية، متابعة التافهين والتافهات، وهذا التخلي يجعل الإنسان يرتقى رويدا رويدا من التفاهة إلى الجدية ومن العبث إلى الاجتهاد والمثابرة والتضحية.
وسوم: العدد 1069