غزة بين الخطاب الديني المنزّل والمبدّل
الإسلام المحرف يقول للمظلوم اصبر، ويقول لمن اعتدي عليه تحمّل، ويقول للجماهير المسحوقة اسكتي وتنالي الأجر، أما الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيقول لكل هذا: كلا وألف لا...يقول على لسان نبيه الكريم:" مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ"(رواه الترمذي وهو في الصحيحين بألفاظ مقاربة)... خطاب نبوي يحرض ضد الظالم والظالمين ويذكي في قلوب المؤمنين جذوة التمرد على الحيف والطغيان، ويخلط إيمانهم بجرعات قوية من رفض الذل والمهانة والاستكانة، والتسلح بالشجاعة والعزة وقوة الشكيمة... الإسلام يأمرنا ألا نستسلم للظالم أيا كان، يضع الأمل في قلوبنا والسلاح في أيدينا كي نعيش أحرارا أعزة أكارم مرفوعي الرؤوس، نستميت في الدفاع عن حقوقنا بنفس المستوى الذي نؤدي به ما علينا من واجبات دينية واجتماعية...في مقابل هذا نجد علماء السوء وفقهاء السلاطين وشيوخ الضلال يؤصلون للعبودية لغير الله، ويقدمون رضا الحكام على رضا الله ويدعون إلى مزيد من سحق إنسانية المسلم لينتهي إلى وضع البهيمة الصماء التي تسبح بحمد الحاكم لأنه يسمح لها بالتقاط الفتات المتساقط من موائده المتخمة، هذا مع أن الهدي النبوي يجعل أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، لكن شيوخ ما يسمى السلفية حرفوا وبدلوا وغيروا، وهذا الشيخ سليمان الرحيلي – على سبيل المثال - يحرم المظاهرات المؤيدة لغزة- والمظاهرات عامة بسبب "ما فيها من الاختلاط" لكنه لم يشر إلى الحفلات التي تقيمها هيئة الترفيه في بلاد الحرمين وما فيها من رقص بين الجنسين وفجور...لماذا؟ لأن "ولي الأمر" أذن بهذه ولم يأذن بتلك !!! ومثل هذا الخطاب الديني المبدَل حقيق بتنفير الناس من الإسلام في حين أبلغهم طوفان الأقصى رسائل واضحة جلية جذابة تدعوهم إلى الإسلام، تحمل صور الصمود والتمسك بالحق والإباء والبطولات النادرة والاستهانة بالموت من أجل الأرض والانتماء والحقوق المقدسة، وللناس أن يتعجبوا من لوحة ترسم تناقضا فجا أمام العالم كله: فمن جهة تجاهد غزة تحت راية الإسلام نيابة عن الأمة، ويعود المسلمون في قلب أروبا كتركيا والبوسنة وألبانيا إلى دينهم وانتمائهم الحضاري ويعتزون به ويخدمونه، ومن الجهة الأخرى نجد أن دولا إسلامية في قلب الجزيرة العربية تتعلمن بخطوات حثيثة وتتنصل من الدين والأخلاق وتعود إلى الحمية الجاهلية وتناصر أعداء الأمة وتفتخر بذلك وتجد من "العلماء" من يسوّغ لها ذلك، وهذا يفضي بنا إلى تساؤل مشروع: من هو عالم الدين الذين نتبعه؟ بداهة ليس هو كل من يتكلم باسم الشريعة ولا من يلتزم زيّ العلماء، فربما تجد من هؤلاء من تراه شيخا عالما مسنِدا، مستويا على عرش التفسير أو الفقه أو الحديث أو الوعظ لكنه يفسد كل ذلك بوقوفه إلى جانب حاكم فاسد ظالم مستبد، يلوي أعناق النصوص ليّا لإرضائه.
إن حجم الخيانة للقضية الفلسطينية مذهل وسيكشف الحساب يوم القيامة عن حقائق عجيبة، ويكفي دليلا على ذلك ما كشفه طوفان الأقصى، وأحقر الناس هم أولئك الذين يلومون الضحية ويجدون أعذارا للجلاد، وأكثر من ينبغي لومهم والانزعاج من فعلهم هم أولئك الذين يحرّضون ضد المجاهدين وينهون الناس عن دعمهم بل حتى عن الدعاء لهم، كل ذلك باسم القرآن والسنة !!!حتى وصل الأمر بأحد "الشيوخ" أن يقول " من دينه أهم من وطنه فلا أمان له"، وهذا مؤشر على انتكاسة عقدية خطيرة تؤثر في مفهوم الولاء والبراء، وتنذر بحلول موسم تتغير فيه الشهادة إلى "لا إله إلا الدولة"، وهذا ما ينبغي بيانه من طرف العلماء العاملين والدعاة الراسخين لأن الولاء والبراء المنبثق عن شهادة التوحيد هو الأصل الكبير الذي تنسدل منه - في التصوّر الإسلامي - كل مسائل السياسة والاقتصاد والقانون والاجتماع والثقافة والفنون وحتى التاريخ والتراث، وما سبق يحيلنا إلى مسألة غاية في الأهمية لم تأخذ حقها من الاهتمام في زماننا هي أن حاجة الأمة إلى قيادات روحية راشدة كحاجتها إلى قيادات فكرية وسياسية لتعلّمها تزكية النفوس وتطهير القلوب والتوبة وتفكر الموت والآخرة...هذا أولى من المدربين واللاعبين العالميين و"الفنانين" الذين يستهلكون أموال الأمة ولا ينتجون شيئا يخدمها أو يرفع مقامها غير مواكب الفارغات والهزليات التافهة، وقد أبت حرب غزة عن هذه الحاجة بجلاء.
وسوم: العدد 1084