تجربة رياض سيف.. سوريا التي انقلب عليها الأسد

إن كان قلبك الصغير لا يحتمل الاستماع إلى تجربة اعتقال سابق من النوع الثقيل، كما في رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة، أو «لهذا أخفينا الموتى» لوائل الزهراوي، أو «خمس دقائق وحسب» لهبة الدباغ.. فهناك اقتراح قد يكون أكثر رأفة بذوي القلوب الهشة، نعثر عليه في بودكاست «عيون الكلام»، الذي يحاور سيدتين سوريتين من جيلين مختلفين، تحت عنوان 

، ومع أن بينهما معتقلة سابقة (رنيم معتوق) إلا أن الحلقة (تقديم ألمى عنتابلي) اهتمّت بتناول تجربة الاعتقال من زاوية نظر ذوي المعتقلين، فرنيم هي ابنة المعتقل، المغيّب في سجون النظام السوري المحامي والناشط الحقوقي البارز خليل معتوق، وجمانة سيف، الناشطة الحقوقية، هي ابنة المعارض والنائب البرلماني السابق رياض سيف، الذي تعرّض للاعتقال أكثر من مرة.

هذا المجتمع الفاتن لم نقرأ عنه في الصحف، بل عايشنا جزءاً منه بشكل مباشر، كنا نرى، كأولاد، بأم العين هذا المجتمع العابر أمامنا كما لو كان قافلة سياحية أجنبية

الإطلالة على تجربة الاعتقال إذن ليست من زاوية ما يبقى من السجن من أثر في حياة المعتقلين السابقين، بل عبر الأثر الذي تركه غياب المعتقل على عائلته، وكم هي مريرة ومضنية تلك الأوقات، الأولى خصوصاً، فيما يبحث الأهل عن رائحة خبر، وطرف خيط، يرشدهم إلى مكان المغيّب، أو مكانه المحتمل، طيف مكانه.

في هذه الحلقة أنت أمام سيدتين في منتهى الرقة، فنانة تشكيلية، وناشطة حقوقية، أخذت في تجربة سابقة عندما كانت تعمل في معامل والدها اسم الأم، وهي تلك المشرفة الاجتماعية التي كانت تهتم بأسر الموظفين، في تجربة كانت فريدة في البلاد. معهما ستوقن أن فظاعة السجن لن تنتهي مع كوابيس السجان، وتلك المرارة الباقية في الحلوق، والتوهان الأبدي في العيون، فها هي تمتد و«تُشَرّش» وصولاً إلى الأحفاد، في سؤال الصغير عن جده، ومصيره.

الحلقة ستأخذنا إلى مقابلة مع رياض سيف نفسه، في بضع حلقات بثت 

 على تلفزيون سوريا (يقدمه شعبان عبود)، ويا لها من تجربة!

يعود الصناعي السوري إلى فترة الخمسينيات في بلده، هنا بإمكانك أن تتحدث عن تلك الدولة الصناعية التي كانتْها دمشق: «الصناعة في سوريا كانت واعدة جداً»، تلك التي أطاح بها «البعث»، مع أن السوريين هم أنفسهم، والمقدرات هي ذاتها، والرياضيات وقواعد الصناعة والتجارة والتسويق هي ذاتها، لكن مع دولة «البعث والمخابرات» اختفى كل ذلك، لا صناعة، ولا حرية صحافة، هذه التي كانت، بحسب رياض سيف، في القمة، كل شيء آلَ إلى مزرعة للأسد.

تتابع في البرنامج تجربة رجل عصاميّ، بدءاً من ذلك الفتى الذي عمل في صيفية المدرسة، إلى تمسّك المعمل به، لأمانته وإخلاصه، وتشغيله لثلاث سنوات ونصف لاحقة إلى جانب دراسته، وصولاً إلى تأسيسه مع إخوته لمعمل بدأ برأسمال لا يزيد على 2800 ليرة سورية، ليصل إلى تجربة صناعية عالمية فريدة، لا على مستوى جودة الصناعة وحدها، بل خصوصاً المجتمع الذي خلق في محيط المصنع. معركة سيف في تشغيل عاملات إلى جانب العمال، والمواجهة مع أحد رجال الدين المعترضين، المطعم في المصنع، الرياضة للعمال، العمل مع العامل يداً بيد، الاهتمام الفائق والحقيقي بعائلات الموظفين وظروفهم.. عالم مذهل، لا تصدق أنه كان حقاً في يوميات المدينة المنكوبة بآل الأسد.

هذا المجتمع الفاتن لم نقرأ عنه في الصحف، بل عايشنا، كسوريين، جزءاً منه بشكل مباشر، وقد صدف أنني أحد أبناء مخيم قريب من معامل رياض سيف، وكنا نرى، كأولاد، بأم العين هذا المجتمع العابر أمامنا كما لو كان قافلة سياحية أجنبية.

يروي سيف تجربة لا تملّ من سماعها، قبل أن يصل إلى الخاتمة التراجيدية التي نعرفها جميعاً، أو يمكن أن يتوقعها مَن انكتَبَ عليه العيش في مزرعة الأسد، إذ من سيسمح لعالَم مثالي كهذا بالاستمرار، خصوصاً إن بدأ بالاعتراض على صفقات اقتصادية مشبوهة، قادته إلى مواجهة مباشرة مع النظام؛ اغتيال ابنه، وسلخ أملاكه بهذه الذريعة أو تلك، ولم ينته بمنتديات للحوار قادته إلى السجن، ومراراً.

في «عيون الكلام» تروي جمانة سيف حكاية إحدى زياراتها العائلية إلى والدها في سجن عدرا المركزي في ضواحي دمشق، زيارات كانت تعتبر ترفاً لآلاف المغيبين في سجون الأسد من دون حس ولا خبر، لكن اِسمعْ باقي الحكاية.

تقول جمانة سيف إنها انتظرت، في تلك الزيارة، من التاسعة صباحاً حتى الثانية والنصف ظهراً حتى يسمح لها بالدخول. عندما أذنوا لها، وكانت معها طفلتها، وُضع الوالد المعتقل في منتصف شَبَك السجن (أي أنه في قلب قفص مسيّج)، لابساً ثياب السجن المُقلّمة، حليق الرأس على الصفر، وفي محيط الشبك تموضع عناصر الشرطة يتصارخون فوق صراخ الابنة (جمانة) والحفيدة الطفلة، التي لم تستطع أن تنبس ببنت شفة طوال الزيارة، تغالب دموعها وصراخها.

رياض سيف في قفص عدرا المركزي لم يكن بعيداً عن الأنظار، فعلى ما يبدو كان مشهداً مدروساً ومُمَسْرَحاً. هل يذكّركم المشهد واستعراضيته بمشاهد لاحقة استفادت من هذا الدرس؟

وتصف أثر المشهد على طفلتها، فتروي ما حدث عندما وصلت إلى البيت، إذ توجهت الطفلة فوراً إلى مطمورتها، حيث ثابرت على جمع «خرجيتها» لتلقيها بين يدي أمها، لتسألها إن كان ما جمعته من النقود يكفي لشراء سلاح وقنابل لتحرير الجد من مشهد الإذلال الرهيب ذاك. فيما تقول: «جدو حدا إنسان منيح ويساعد كل الناس، لماذا تعامله الشرطة هكذا؟».

تعلّق جمانة سيف، وقد أذهلتها ردة فعل ابنتها، بالقول: «لم تأت مرة سيرة السلاح في بيتنا»، لكن «..هكذا يخلق العنف والتطرف، عندما يكون هناك كل هذا الظلم، ولا وجود لقانون يحمي».

مشهد رياض سيف في قفص عدرا المركزي، أحد مؤسسات «دولة المؤسسات»، لم يكن بعيداً عن الأنظار (على نحو ما تسرّب في شهادات المعتقلين الآخرين المرعبة)، فعلى ما يبدو كان مشهداً مدروساً ومُمَسْرَحاً (تقول جمانة سيف إن الاستعراض فيه مقصود). هل يذكركم المشهد واستعراضيته بمشاهد لاحقة استفادت من هذا الدرس؟

نعم. هنالك مشاهد كثيرة لا تمحى، و ما من داع للبحث عمّن كان الأسبق، من كان الأصل، والذين نسخوا عنه.

وسوم: العدد 1084