ماذا يعني عجز العالم عن وقف المذبحة؟

استخدم فولكر تورك، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، صورة شديدة البلاغة والإيضاح في توصيفه لتجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين الأربعين ألفا، وذلك في الحرب المتواصلة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، بقوله إن «العالم أجمع يدخل اليوم مرحلة مظلمة».

لقد استفحل ولوغ جيش الاحتلال الإسرائيلي في دماء الفلسطينيين معدّل قتل يقارب 130 شخصا يوميا على مدى عشرة أشهر، وتسبّب هذا الجيش في دمار هائل للمنازل والمستشفيات والمدارس ودور العبادة، واستنادا على هذه الأرقام والوقائع على الأرض، أكد تورك أن هذا الوضع الذي لا يمكن تصوّره «ناجم إلى حد كبير عن الانتهاكات المتكررة للقوات الإسرائيلية لقواعد الحرب».

أشار المفوض إلى انتهاك إسرائيل للقانون الإنساني الدولي، والحقيقة أن إسرائيل بأفعالها تلك، لم تقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني، ولم تدمّر البنى التحتيّة لمليونين و400 ألف من أسرى سجنها المفتوح والمحاصر المسمى غزة، لكنها قتلت ودمّرت «القانون الإنساني الدولي» فماذا صنعت الإنسانية التي قُتلت شريعتها وقوانينها؟

يقرّ تورك بأن العالم «عاجز عن منع هذه المذبحة» وأنه يدرك عجزه، ويكشف إدراك العالم بهذا العجز لكنّه يقدّم، على الأقل، شهادته التاريخية على ما يحصل، ويُخلي مسؤوليته الرسمية عن التواطؤ مع تلك المذبحة، وهو ما جعله عرضة لاتهامات البعثة الإسرائيلية في جنيف «بنشر دعاية حماس»!

يكشف هذا التصريح إشكالية كبرى تكوّنت مع تشكيل النظام الجديد للعالم بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كانت إسرائيل، والمسألة الفلسطينية واحدة من نتائجه، كما كان تأسيس الأمم المتحدة نفسها، التي وافقت على قرار تقسيم فلسطين ونشوء إسرائيل، من نتائجه أيضا.

يمكن قراءة تصريح «عجز العالم» ودور إسرائيل (والغرب الحليف لها) في فضح هذا العجز، وفي كون نقض الدولة العبرية لأسس القانون الإنساني الدولي، هو، بالضرورة، نقض لمؤسسة الأمم المتحدة نفسها، وتفكيك واضح لمقاصدها ومعانيها والأسس التي قامت عليها، وهو أمر شهدنا أمثلة كبرى عليه عبر اشتباك إسرائيل المتكرر مع أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للمنظمة الأممية، والبلطجة التي مارستها على عدد كبير من مسؤوليها، والصراع الدائر في محكمتي العدل والجنائية الدوليتين، على خلفية اتهامات الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

ما نراه فعليا، أن النظام الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية يتعرّض على أيدي إسرائيل، للتفكك المنطقيّ، فلقد قام ذلك النظام بعد نهاية صراع هائل بين القوى الكبرى التي كانت تتصارع على العالم. لقد انطبع مثال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بألمانيا النازية التي قتلت ملايين اليهود والغجر والروس والبولونيين، لكنّ القوى الأخرى كانت مسؤولة أيضا عن مآس كبرى، مثل المجاعة في بنغال الهند التي كانت تحت الاحتلال الانكليزي عام 1943 والتي قضت على أكثر من 3 ملايين شخص.

المفارقة الكبرى الجارية حاليا أن إسرائيل، باعتبارها نتيجة لتلك الحرب العالمية والنظام الذي نشأ على أنقاضها، تعيد في أيديولوجيتها العنصرية التي تعطي اليهود حقوقا ليست لأهل الأرض الأصليين، وفي ممارسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، إحياء أشباح النازيّة، وهو ما يقرّه ساسة وكتّاب إسرائيليون، كما فعلت يولي نوفاك، مديرة منظمة «بتسيلم» التي وصفت الحكومة الإسرائيلية الحالية بـ«الفاشية العنصرية».

ما يجعل هذه المفارقة مرعبة أن المنظومات السياسية الغربية الحديثة التي ساهمت (بتأخر وعلى مضاضة كما يشير التاريخ) في القضاء على النازية، هي الحليف الأكبر لإسرائيل، ما يجعلها مساهمة في تفكيك القانون الإنساني الدولي الذي نشأت هذه المنظومة الكبرى عليه، وهو أمر يستدعي، على المستوى المنطقي، تفكك هذا الغرب، ويسائل معنى العالم الذي «دخل مرحلة مظلمة».

وسوم: العدد 1091