نفاق المجتمع الدولي: لماذا يُحتفى بتيمور الشرقية ويُتهم الفلسطينيون؟

في التاسع والعشرين من شهر أغسطس عام 1999 ذهب الشعب التيموري إلى صناديق الاستفتاء، الذي نظمته الأمم المتحدة، والذي طرح عليهم خيارين: الاستقلال أو الحكم الذاتي الموسع، تحت سيادة إندونيسيا. وكانت النتيجة أن اختار 78.5% من الشعب الاستقلال. وبعد مواجهات دموية عاد الرئيس الإندونيسي الجديد بحر الدين يوسف حبيبي واعترف بنتائج الاستفتاء في أكتوبر 1999 بعد أن تيقن أن التيار الدولي يضغط باتجاه انفصال تيمور الشرقية، وأن التمسك بها جزءا من إندونيسيا سيكون مكلفا، وان التفرغ للتحول الديمقراطي في بلاده وبناء دولة صناعية حديثة أهم من ذلك بكثير.

قادت الأمم المتحدة المرحلة الانتقالية إلى أن أعلن يوم 20 مايو عام 2002 الاستقلال رسميا، وانضمت تيمور الشرقية للأمم المتحدة لتصبح العضو 191 من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية. في الذكرى الخامسة والعشرين للاستفتاء، احتفل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، مع الشعب التيموري بهذه المناسبة. وكانت فرحته مضاعفة، لأن تيمور الشرقية كانت خاضعة للاستعمار البرتغالي، وعندما انسحب البرتغال منها عام 1975 سيطرت عليها إندونيسيا عام 1976 تحت حجة أن الجزيرة كانت جزءا لا يتجزأ منها، لكن الاستعمار البرتغالي عمل على نشر المسيحية الكاثوليكية في البلاد وعمل على تغيير التركيبة السكانية، حتى أصبحت غالبية السكان من أتباع المذهب الكاثوليكي في بلد غالبية سكانه من المسلمين.

صوتت الجمعية العامة مرارا وتكرارا بحق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال والسيطرة الأجنبية بأن تقاوم بالطرق كافة لاسترداد حقها في تقرير المصير والاستقلال

أسوق هذه التطورات لأطلع القراء على النفاق الدولي، الذي كان يجب أن ينجو منه الأمين العام للأمم المتحدة، وأن يكون محايدا وموضوعيا وصادقا في كل الأمور. فقد استفزني خطاب غوتيريش، في برلمان تيمور الشرقية يوم الاحتفال، الذي تغزل فيه بشكل غير موضوعي باستقلال تيمور الشرقية وكفاحها. وقال إنه تابع مراحل النضال والكفاح المسلح للشعب التيموري، السري والعلني ضد الاحتلال الإندونيسي. ونحن بدورنا لا نشك بأن الشعب في تيمور الشرقية قاتل ببسالة، وتعرض للمجازر خلال حرب التحرير بين عامي 1992- 1998 حين دخلت القوات الأسترالية لتحمي السكان من بطش القوات الإندونيسية، فقد صرح خوسيه مانويل راموس هورتا رئيس البلاد الحالي، الذي كان زعيما في المنفى خلال فترة المقاومة، بأن إمكانيات انتصار المقاومة ضد الاحتلال الإندونيسي كانت غير متكافئة ومستحيلة عسكريا. لقد تسبب الاحتلال في مقتل أكثر من 200 ألف شخص – وهو ما يمثل 25% من سكان تيمور الشرقية في ذلك الوقت، وشمل ذلك استخدام الأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة، مثل قنابل النابالم.

وأقتبس هنا بعض ما جاء في خطاب الأمين العام أمام البرلمان التيموري فيما يتعلق بجزئية تبجيل المقاومة المسلحة. قال: «إننا لا نستطيع أن ننسى أبداً شجاعة المقاومة التيمورية. المقاومة التي قادها شانانا غوسماو، الذي قاتل ببسالة في الجبال، وقاوم ببسالة في السجن، وقاد شعب تيمور الشرقية إلى الاستقلال والديمقراطية. المقاومة التي قادها أناس خاطروا بكل شيء من أجل تحقيق الاستقلال. ينبغي لنا أن لا ننسى التضحيات التي بذلت، والأرواح التي أزهقت، والأسر التي تغيرت إلى الأبد. ولا نستطيع أن ننسى دور الجبهة المسلحة، والجبهة السرية، والجبهة الخارجية، والكنيسة الكاثوليكية، ولذلك، أود هنا اليوم ـ أمام الممثلين المنتخبين لشعب تيمور الشرقية ـ أن أشيد بشجاعة المقاومة التيمورية وبالرجال والنساء الذين شاركوا فيها والتزموا بها». فهو يمدح المقاومة وقيادتها وبطولات المقاومين من نساء ورجال ورجال دين. ويثني على الجبهات المسلحة السرية والعلنية.

عندما يكون هناك احتلال يرتكب من الفظائع ما لا يقبله الشعب الواقع تحت الاحتلال، تنطلق المقاومة السرية والعلنية، العنيفة والسلمية، ثم تنخرط فيها فئات الشعب في غالبيتها، من نقابات واتحادات وقيادات مجتمعية ورجال دين وتجمعات نسائية وقيادات الرأي من مفكرين وكتاب وصحافيين وأساتذة. هذه تجربة العصر الحديث منذ عهود الاستعمار بأشكاله المختلفة. لكننا عندما نطرح مقارنة ما يجري في فلسطين من احتلال استيطاني هو الأطول والأعنف في العصر الحديث، يقوم على الاستيلاء على الأرض بالقوة، وطرد السكان وهدم المباني واحتجاز الجثامين، ومحاكمة الأطفال في محاكم عسكرية، ونقل أعداد كبيرة من سكان البلد القائم بالاحتلال إلى المناطق المحتلة، في مخالفة ساطعة للبند 49 من اتفاقية جنيف الرابعة (1949) واستخدام أسلحة مفرطة في قوة تدميرها، بما في ذلك سلاح الجو والمدفعية والدبابات والصواريخ بأنواعها وبالغازات المحرمة ضد الشعب الواقع تحت الاحتلال، فهل يحق للشعب الفلسطيني أن يقاوم، وهل ما تحدث عنه الأمين العام في تبجيل المقاومة التيمورية، ينطبق على الشعب الفلسطيني؟ وهل ما يقوم به الشعب الفلسطيني فيه انتهاك للقانون الدولي؟ يأتي الرد الرسمي «لم يكن الأمين العام يشيد بالعنف.. أعتقد أنه في كل صراع وكل كفاح، هناك حاجة في النهاية إلى حل سياسي»، أي أن ما يقوم به الفلسطينيون هو عنف وليس مقاومة؟ هل هناك أرعن من جواب كهذا؟

أما رد الأمين العام نفسه عندما أثرت معه السؤال نفسه فتهرب بطريقة أخبث: «تعلموا من الهند والمقاومة السلمية». ولكن الهند كان فيها 400 مليون إنسان تستطيع أن تغرق بريطانيا بالبصاق لو كل هندي بصق على الدولة المستعمرة، كما قال غاندي زعيم المقاومة السلمية. فكيف يمكن مقارنة الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال بأعداده القليلة مع الشعب الهندي. ولماذا يتحدثون عن المقاومة السلمية عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني، الذي يواجه أعتى احتلال استيطاني إحلالي لا مثيل له في التاريخ؟ هل خرج الاستعمار الإنكليزي والفرنسي والبرتغالي والإسباني والبلجيكي والهولندي بالمقاومة السلمية فقط؟ وحتى الاستعمار الإنكليزي للولايات المتحدة، هل خرج بالمظاهرات فقط؟ ولماذا يمجد الأمريكيون جورج واشنطن ويعتبرونه مثالا للبطولة؟ سألت السفيرة الأمريكية؟ ولماذا تضعون تمثالا لنيلسون مانديلا في المدخل الرئيسي لمبنى الجمعية العامة، وهو الذي قضى 27 سنة من عمره في السجون بتهمة الإرهاب؟ أليس لأنه قاوم نظام الأبرثهايد بالقوة المسلحة؟ سألت سفير زيمبابوي الذي لا ينفك يتحدث عن حل الدولتين؟

المشكلة في الخطاب الرسمي الفلسطيني أنه يخلو تماما من الدفاع عن حق المقاومة ضد الاحتلال بالوسائل المتاحة، بما فيها الكفاح المسلح. نحن لم نخترع هذا الحق. المجتمع الدولي هو الذي أعطانا هذا الحق. لقد صوتت الجمعية العامة مرارا وتكرارا بحق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال والسيطرة الأجنبية بأن تقاوم بالطرق كافة لاسترداد حقها في تقرير المصير والاستقلال. وراجعوا معنا القرار التاريخي الشهير 1514 لعام 1960 الذي نص على هذا الحق وبدأت بعده موجات الثورات التي تسعى إلى الاستقلال، وأنشأت الأمم المتحدة إدارة خاصة تسمى «إدارة تصفية الاستعمار». لقد ساهمت الأمم المتحدة في استقلال عديد من الدول ووقفت مع مقاومتها المسلحة في روديسيا (زمبابوي) وناميبيا وجنوب افريقيا وتيمور الشرقية وأنغولا وموزامبيق وغيرها الكثير. أما عن فلسطين فقد اعتمدت الجمعية العامة عام 1974 القرار التاريخي الشهير 3236 (1974) الذي فصل حقوق الشعب الفلسطينيّ غيرَ القابلةِ للتصرّف، والتي تشملُ حقَّهُ في تقرير المصير والاستقلال الوطنيّ والسيادة وحقّ العودة للاجئين إلى ديارهم وأراضيهم وحقّه في اختيار قياداته التي تمثّله وحقّه في مقاومة الاحتلال بالطرق المناسبة، بما يتوافق مع ميثاق الأمم المتّحدة. فلماذا نخشى من الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في المقاومة؟ ولماذا لا يطرحون هذا الحق في كل فرصة؟ وإذا لم يدافع الفلسطيني عن هذا الحق فهل نتوقع أن يدافع عنه المطبعون العرب؟

وسوم: العدد 1093