مذبحة «حديثة» في العراق والديمقراطية والنسيان

في التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر عام 2005 انفجرت عبوة ناسفة في أحد شوارع مدينة حديثة في محافظة الأنبار وقتلت جندياً ضمن وحدة من قوات المارينز التابعة للجيش الأمريكي، الذي كان يحتل العراق آنذاك، كانت مارة بالمكان في عربة «همڤي».

انتقم المارينز بوحشية فأعدموا خمسة شباب كانوا في سيارة في طريقهم إلى الكلية في بغداد. وهجموا على بيوت قريبة وقتلوا أربعة وعشرين مدنياً، بينهم أطفال ونساء. وكان بين الضحايا رجل في السابعة والستين من عمره على كرسي متحرك، وأطفال تتراوح أعمارهم بين الثالثة والرابعة عشرة. وادّعى المارينز أن كل هؤلاء كانوا إرهابيين. وكانت أوامر العريف ووتيرج لرجاله قبل أن يفتشوا البيوت: «اطلقوا النار أولاً واطرحوا الأسئلة في ما بعد».

في كانون الأول/ديسمبر من العام ذاته دفع الجيش الأمريكي تعويضاً (المصطلح الرسمي «مدفوعات تعزية» (condolence payment) بقيمة 2500 دولاراً للفرد. وفي الحادي والعشرين من كانون الأول/ديسمبر تم توجيه التهم إلى ثمانية من جنود المارينز. أسقطت التهم الموجهة ضد ستة منهم، وحكمت المحكمة بالبراءة على واحد آخر.

في الثالث والعشرين من كانون الثاني/يناير 2012، اعترف العريف فرانك ووتيرج بإهمال واجباته وأُسقِطت تهمة القتل. في اليوم التالي صدر حكم بخفض رتبته وتسريحه من الخدمة العسكرية دون عقوبة سجن.

بالقرب من مقبرة الشهداء في حديثة، حيث ترقد جثامين هؤلاء، كتب أحدهم بيده على جدار أحد البيوت المهجورة: «الديمقراطية اغتالت العائلة التي كانت تعيش هنا».

حين سئل ساليناس، أحد الجنود الذين كانوا شهوداً على الجريمة، إذا ما كان سيفعل أي شيء قام به في ذلك اليوم بطريقة مختلفة، قال: «كنت سأستخدم سلاح الجو لقصف البيت وتسويته أرضاً». واعترف جندي آخر، يدعى ديلا كروز، أنّه تبوّل على جمجمة أحد العراقيين، الذين أعدمهم العريف ووتيرج.

في التاسع عشر من آب/أغسطس 2012، عاد ووتيرج من كاليفورنيا حيث يعيش إلى مسقط رأسه في ولاية كونيتيكت لحضور بطولة غولف نظمتها مجموعات المحاربين القدامى على شرفه بهدف جمع التبرعات. وقال رئيس واحدة من المنظمات «كل الذين تحدثت إليهم من المحاربين القدامى يقولون إنهم كانوا سيفعلون الشيء ذاته.. لقد فعل الشيء الصحيح».

بالقرب من مقبرة الشهداء في حديثة، حيث ترقد جثامين هؤلاء، كتب أحدهم بيده على جدار أحد البيوت المهجورة: «الديمقراطية اغتالت العائلة التي كانت تعيش هنا».

كل ما تقدم معروف منذ سنوات وكتب عنه صاحب هذه السطور وآخرون بالإنجليزية، لكن المذبحة توارت خلف مذابح وكوارث أخرى توالت على العراق. أما في الولايات المتحدة فمجرمو الحروب، الكبار والصغار، الذين أطلقوا النيران أو أصدروا الأوامر عن بعد من مكاتبهم، يصبحون أبطالاً.

لكن مذبحة حديثة عادت إلى الواجهة قبل أيام بعد أن نشرت مجلة «ذا نيويوركر» في السابع والعشرين من آب/أغسطس عدداً من الصور كان اثنان من وحدة المارينز قد التقطوها بعد المذبحة، واستخدمت كأدلة ضد رفاقهم. حرص قادة المارينز على عدم نشر الصور على الملأ، وافتخر الجنرال مايكل هاغي أن الصحافة لم تحصل آنذاك على الصور، على خلاف ما حدث في أبو غريب وتسبّب في فضيحة مجلجلة. تذرّع الجيش الأمريكي بأن نشر الصور سيؤلم عوائل الضحايا، لكن الصحفيين تحصلوا على موافقتهم الرسمية، مما دعم الشكوى القضائية التي طالبت بنشر الصور.

لن يغير نشر هذه الصور الكثير في السياق الأمريكي عموماً، فغزو العراق واحتلاله وتبعاته أصبحت عناوين ثانوية. بل إن معظم الجيل الجديد من الشباب، باستثناء الناشطين واليساريين، لا يعرف الكثير عن تفاصيل غزو العراق واحتلاله. هذا ما يؤكده عدد كبير من الزملاء الذين يدرسون التاريخ والسياسة في جامعات أمريكية في أنحاء البلاد.

اللافت في المجتمع الأمريكي، أن الكثير من الليبراليين عموماً يعانون من متلازمة «البراءة الأمريكية». وما أقصده هو أنه كلما أميط اللثام عن جريمة أو مذبحة ارتكبتها الولايات المتحدة، سواء كان الجناة جنودها الأشاوس في بلاد بعيدة، أو شرطتها الشرسة داخل البلاد، والسجل حافل ولا نحتاج للتذكير، أو عن معلومات وتقارير أخفيت عمداً عن المواطنين، تكون هناك موجة استنكار ودعوات لإعادة النظر وللنقد الذاتي، لكنها تنسى ولا تترجم إلى تغيير سياسي على أي صعيد يذكر.

قد يكون الاستثناء هو حركة «حياة السود مهمة»، التي برزت بعد واحدة من هذه الصدمات ونشطت وتجذرّت في صفوف الشباب. لكن قادتها ليسوا من الليبراليين الذين يعودون إلى ممارساتهم وتفكيرهم التقليدي حتى الصدمة التالية.

ارتبط غزو العراق واحتلاله ببوش الابن والمحافظين الجدد. وما لا يتذكره إلا القلائل هو دعم الليبراليين، الذين سمّوا «صقور اليسار». والجدير بالذكر هو أن «مجلة ذا نيويوركر» الليبرالية العريقة، التي نشرت صور مذبحة حديثة، كانت من أبرز المنابر الليبرالية التي دعمت الحرب. وكتب رئيس تحريرها، ديفيد ريمنك، في كانون الثاني/يناير 2003 عموداً يتفلسف فيه ويدعم الغزو والحرب القادمة.

قد يتساءل البعض، وقد قرأت وسمعت تساؤلات كهذه: ماذا كان سيتغيّر، يا ترى، لو أن وسائل التواصل والتكنولوجيا المتوفرة الآن عبر الهواتف المحمولة كانت في متناول العراقيين أثناء الاحتلال؟ كان «العالم» سيرى تفاصيل الجرائم المرتكبة ضد المدنيين العراقيين على شاشاته؟ ثم ماذا؟ كان الغضب العارم من جرائم الاحتلال سيؤدي إلى مزيد من التظاهرات والاحتجاجات، التي كانت قد خرجت أصلاً. لكنها فقدت زخمها ولم تترجم إلى تغيير فعلي في السياسات. فها هو «العالم» يشاهد أكثر حرب إبادة موثقة في تاريخ البشرية في غزة ومذابح يومية منذ ما يقارب السنة على شاشاته الصغيرة والكبيرة.

وما دمنا بصدد الليبراليين ومواقفهم من الغزو والاحتلال، فلابد من التذكير بالكثير من الليبراليين العراقيين، الذي استبشروا خيراً بالغزو والاحتلال الأمريكي، ودافعوا عمّا سمّي «العملية السياسية»، التي وضع قواعدها الاحتلال، مع أن كارثية تبعاتها ومآلاتها كانت واضحة منذ البداية. وتباكى الكثير منهم لسنوات لأن العراقيين لم يمهلوا الأمريكان ما يكفي من الوقت والأمن لكي يكملوا المهمة ويحققوا أهدافهم النبيلة!

وكان أكثر من مائة وخمسين من هؤلاء قد وجهوا في 2004 «رسالة شكر وعرفان واعتراف بالجميل إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير وإلى الشعبين الأمريكي والبريطاني وجيشي البلدين بمناسبة تسليم السلطة للعراقيين. أثنوا فيها على مبادرتهما «النبيلة والشجاعة في تحرير شعبنا ومساعدته على الخلاص من أبشع نظام ديكتاتوري دموي عرفته بلادنا والعالم». وتسلّق أحد الموقعين سلّم الديمقراطية ليصبح رئيساً لجهاز المخابرات ثم رئيساً للوزراء! وقلّ ما تجد لدى هؤلاء مراجعة نقدية لمواقفهم.

وسوم: العدد 1093