شؤون سورية – تركية
ابن الثمانين يتذكر:
اتفاقية أضنة السورية - التركية بين تشرين الأول/1998 - وتشرين الأول/ 2024
متغيرات استراتيجية أساسية، من مصلحة العاملين عليها أن يعوها...
بانتهاء الحرب العالمية الأولى، وانفراط عقد الدولة العثمانية، كانت بلاد الشام بجملتها، والتي أصبح اسمها دولة سورية، وأصبحت بل أمست هي الحلقة الأضعف في المعادلة الدولية والإقليمية.
وكما عمل خنجر سايكس- بيكو جهده على تفتيت الشام الكبير، إلى أربع دول وإذا شئتم إلى خمس دول، وفي الوقت نفسه، كان على الطرف التركي الذي كان راعيا للولاية من قبل، طرف قومي قوي نسبيا، وتغلب عليه النزعة القومية الطورانية، يرسم حدودا لم تكن موجودة ولا معهودة ولا متصورة، بمشيئته، ويطاوعه جنرال فرنسي بكل ما يريد، فماذا يضير فرنسا، في حين يكون الدفع من كيس "خرو" جولات من المكايدات أو المعابثات أو اللجان الأممية، ودائما تكون النتيجة كما تعلمون.. الحق للأقوى والحق على الأضعف...
كل هذا أدخل العلاقة السورية - التركية، عبر عقود ما بعد الاستقلال، في مرحلة متوفزة متوترة...
من ذاكرة صبي عمره عشر سنوات، أتذكر أنه في الأعوام 1957- 1958 حصل توتر شديد في العلاقة السورية - التركية، حتى خاف الناس، وبدؤوا في الشمال السوري، شمال حلب وأخواتها يحفرون الخنادق باتجاه الحدود التركية، لا أزعم أنني أعي ماذا حصل، ولا أريد أن أكلف نفسي عناء البحث عنه. وكنا في يوم من أيام شهر تشرين الثاني، أظنه اليوم الثاني، تكون لنا حصة مدرسية خاصة ، يحدثنا المعلمون و الأساتذة عما يسمونه اللواء السليب، يقصدون لواء اسكندرون، والذي يضم في جنباته مدينة انطاكية شقيقة حلب التاريخية...
لا أفتح جروحا وإنما استحضر ذكريات تاريخية، تعيننا على فهم مشكلات حدودية ظلت سائدة في العلاقة بحكم "الجيوسياسة" حتى ما يسمى اتفاقية أضنة التي يريد بعض الساسة أحياءها اليوم، متناسين اختلاف الظروف والعوامل...
في ظل تلك العلاقة المبنية على التوتر، وتناقض المصالح، كان حافظ الأسد منذ أواسط الثمانينات، يدعم دورا وأنشطة إرهابية، تقع على الأرض التركية، وراح ضحيتها عبر عقدين من الزمان عشرات الألوف من المواطنين الأتراك الأبرياء...دائما نظل نترحم عليهم. كان أثر قرار قتل إنسان عند حافظ ومن ثم بشار الأسد كأثر انكسار كأس ماء، وربما لا يقولون في إثره: واخ...
أجمل شيء عشناه في شطر عمرنا الأول، نحن أبناء جيلنا الذي بدأت ترتجف أصابعه عند الكتابة، وإن كان قلبه ثابتَ الجنان، أننا كنا عندما يحترب الساسة أو يتنازعون، تظل الشعوب تستمسك بالعلاقات الدفيئة، وبالحب الأول وبحقيقة الوفاء حتى الرمق الأخير.
أخبركم حقيقة قد لا تعجب بعض أبناء جيل منخلع: "الذين يحبون لا يحقدون". والذين يحقدون يحتاجون إلى دورات عملية حتى يتعلموا الحب... وهذا عنوان كنت قد كتبت نحته عشر مقالات، فعندما كان الماديون والبعثيون يهتفون فوق رؤوسنا بشعار "الحقد المقدس" كنا نرد نحن أبناء عقيدة ومنهج لا تعرف الحقد بلهَ ، وبله بمعنى دع عنك" أن تقدسه. نحن لا نحقد ولا نقدس الحقد، ونتلقى طعنات الظهر بنفس الشجاعة التي نتلقى بها طعنات الصدر، ولكنها تكون ممزوجة بجرعة أكبر من الألم ..الله أكبر كانوا الأمل فصاروا الألم، وكان الفزع إليهم فصار الفزع منهم!!
أتذكر عندما سمح للحاج التركي أن يحج عبر المواصلات البرية "الباصات" ، كيف كانت جموع الحجاج والعمار تستقبل في المدن السورية بالحفاوة التي يستحقها عنوان "ضيوف الرحمن" فالشام إذا صحت العبارة، هي عتبة الأرض المقدسة في مكة وفي القدس، ومن هنا استحقت في مخيال جميع المسلمين التقديس.
وفي 1998 وفي عهد الرئيس التركي ديميريل، أحفظ عن الرئيس ديميريل أنه أول رئيس تركي على عرش تركية العلمانية، يفتتح خطابا "بسم الله الرحمن الرحيم" وقد أحدثت تلك البسملة زلزالا عند سواد العلمانيين..في عهد الرئيس ديميريل، اصطفت الدبابات التركية، على الحدود السورية...
واضطر حافظ الأسد يومها أن يرفع راية بيضاء، وأن يخرج عبد الله أوجلان من سورية، وأن يغلق مراكز إيواء وتدريب الإرهابيين...
وأن يوقع مع الدولة التركية، اتفاقية أمنية، عنونت بعنوان: اتفاقية أضنة. وحين أقول اتفاقية أمنية، فهذا يعني أنها اتفاقية غير سياسية، وأنها غير معلنة، وأن كل ما يقوله الناس عنها مجرد تخمين!! بحيث يكون كل الحب المدعى الذي حُكي عنه بين الرئيس أردوغان وبين بشار الأسد مجرد تخمين. واسألوا فيروز عن حب التخمين...
وكان من بنود تلك الاتفاقية كما يخمنون التزام حافظ الأسد بوقف الدعم للإرهابيين، وإخراجهم من سورية، والسماح للجندرما التركية بمطاردتهم عبر الحدود. يقول بعضهم بعمق خمسة كم ويقول آخرون بعمق أربعين.
واليوم يستحضر المتابعون والمراقبون والوسطاء والمباشرون اتفاقيةَ أضنة، ويقولون يمكن للحكومتين أن تنحَوَا نحوها في صناعة توافق جديد...
ينسى الرئيس التركي ونظيره السوري تغير الزمان بين 1998 و 2024...
اليوم عبد الله أوجلان ليس الحلقة الأضعف في المعادلة، يسلمه من يشاء، لمن يشاء، عندما يشاء..
اليوم عبد الله أوجلان مدعوم من رئيس أمريكي نهارا، ومن رئيس روسي ليلا، وبهذا اختلفت المعادلة على طرفي اتفاقية أضنة مهما تكن بنودها. فلا يغني الاتفاق على بنودها عندما تختلف ظروفها. عبد الله أوجلان اليوم يملكهم ولا يملكونه، أو هكذا يحسب هو، ومن ورائه. أساطيل الولايات المتحدة وبوارجها وقواعدها في التنف وفي النتف. وأذكرهم أن "إمام الميليشيات" أو وليهم، لم يجرؤ أن يرد على من استباح داره، بغير إذن من المستبيح، فيالذلة المستباح حين يستأذن المستبيح!!
قد تقول لي، ويخيل إليك أنك المصيب: إن الطرف الأضعف في المعادلة في سنة 2024 هم هذه البقية من الأحرار السوريين، فأتمتم وأنا أجفف ماء ينحدر من مقلتي، وأقول لك: نعم هم هؤلاء... هم هؤلاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: لا يضرهم من خذلهم... وأقسم بالله على قول رسول الله صلى الله وسلم على رسوله: نعم والله لا يضرهم من خذلهم. ألا فأشفقوا على أنفسكم أيها الخاذلون...
من حلب حتى العريش مرورا بحوران وغزة لا يضرنا من خذلنا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون...
وسوم: العدد 1093