من معبرِ الكرامةِ تعبرُ الكرامةُ لتنتصرَ لفلسطين

منذ معركة الكرامة والقائد مشهور الحديثي الجازي، الذي حقق أول نصرٍ عربي مع إخوانه فدائيي الثورة الفلسطينية عام 1968، وقبلها هبّةُ هارون الجازي قائد سرية المتطوعين الأردنيين للدفاع عن القدس والّلطرون عام 1948، إلى المارد الأردني ابن معان وابن عشيرة الحويطات ماهر الجازي؛ تتوارث الأجيال روح العزة والإباء وحميّة النضال ضد الاحتلال والغزاة المعتدين، فتسطِّر للتاريخ صفحةً مشرِّفةً من صفحات الشموخ العربي، وتطوي معها صفحات الذل والهوان لأنظمة الصمت والعار والتطبيع.

مع دخول الحرب الفاشية شهرها الثاني عشر ضد الشعب الفلسطيني، ومع تزايد مجازر الإبادة الجماعية التي تحصد العشرات من الأطفال والنساء يومياً، ومع اغتيال المتضامنة الأمريكية التركية الأصل عائشة نور، وبالتزامن مع اشتعال جبهة الضفة الغربية؛ في هذا الخضم تأتي عملية الكرامة على يد الفارس الأردني ماهر الجازي، لِتبلّغَ العالم أن الشعب الفلسطيني ليس وحيداً في هذه الحرب العدوانية، بل معه أبناء الأمة كلها، وأن وحدة الدم والمصير ستنتصر على «سيف نتنياهو» التوراتي المزيف المسلّط على بلدان الشرق الأوسط.

السؤال هنا، هل تُنبئ هذه العملية النوعية بمكانها وتوقيتها ومنفذها باحتمال اتساع الحرب إلى جبهاتٍ أخرى بعد جبهة الضفة الغربية؟ أم أن هذه العملية تأتي في سياق التعبير «الفردي» عن الشعور العربي الواحد بالآلام والمعاناة التي يكابدها الشعب الفلسطيني، وسط صمت العالم؛ ما يستدعي الرد على جرائم الاحتلال وداعميه وشركائه؟ وبناءً عليه، سواء هذا أو ذاك فإن هذه العملية البطولية حملت معاني عديدة منها: أن هناك وحدة ساحات بالدم والشعور الواحد والآلام والمعاناة المشتركة، مع استمرار نزف الدم الفلسطيني والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. وثانيها، أن الشعوب العربية قادرة على أن تدخل الحرب بأدواتها الخاصة بمعزلٍ عن الأنظمة المرتبطة بمصالح واتفاقات ومعاهدات مع الكيان الصهيوني، ولا تراهن على تحرك جيوشهم الجرارة وأسلحتهم الصدئة. وتؤكد أيضاً رفض الشعوب العربية وقواها الحيّة لكل الاتفاقيات والمواثيق وسياسات التطبيع مع الكيان الغاصب، إضافةً إلى إن الشعب العربي لا يزال يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية ويؤازرها ويدعمها بكل السبل المتاحة، ويعتبرها محور الصراع العربي الصهيوني، رغم كل محاولات تهميشها وتصفيتها، وأنها ليست قضية الفلسطينيين فحسب، بل هي قضية العرب والمسلمين كلهم؛ وهذا بدوره أعطى القضية دفعاً مؤثراً، ودماً جديداً. وشكلت هذه العملية رداً طبيعياً على استمرار جرائم الاحتلال وداعميه في غزة والضفة، وأكدت رفض الجماهير العربية لاستمرار وجود هذا الاحتلال الجاثم على الأرض العربية، وضرورة مقاومة مخططاته الإجلائية الإجرامية بالتهجير القسري أو الطوعي، ومحاولات تهويد الأماكن المقدسة، ومصادرة الأراضي، وتوسيع الاستيطان.

الشعب العربي لا يزال يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية ويدعمها بكل السبل المتاحة، ويعتبرها محور الصراع العربي الصهيوني، وأنها ليست قضية الفلسطينيين وحدهم بل قضية العرب والمسلمين كلهم

من جهة أخرى، أشارت هذه العملية إلى اللغة الوحيدة التي يفهمها قادة الاحتلال، خاصةً بعد تعنّت نتنياهو ورفضه المتكرر والمتعمد لإبرام صفقة تبادل الأسرى التي ستفضي إلى وقف إطلاق النار؛ وهذا ما عبرت عنه بعض التصريحات الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين، وما عبرت عنه المظاهرات المناهضة لحكومة نتنياهو، التي طالبت بالإسراع لعقد صفقة التبادل. وأبرزت هذه العملية حقيقة مفادها ألا مستقبل لهذه الدولة المارقة كجسمٍ غريب، وقاعدة متقدمة للرأسمالية العالمية، زُرعت في قلب الوطن العربي لتجزئة الأمة وتقطيع أوصالها تمهيداً للسيطرة على مقدراتها وقهر شعوبها؛ هذه الحقيقة تسقط مفهوم الأمن والسلام الذي وعدَ به قادةُ الصهاينة مستوطنيهم القادمين من وراء البحار، ولعل في تصريح نتنياهو عقب عملية الكرامة تعبيراً عن هذه المخاوف بقوله: «نحن محاطون بأيديولوجية قاتلة.. محاطون بمجرمين يريدون قتلنا جميعاً». وكان موشيه شاريت أحد مؤسسي دولة الكيان وثاني رئيس وزراء لها وهو أوكراني الأصل، قد أكد هذه الحقيقة عندما قال: «إننا قطرةٌ في محيطٍ من الكراهية». كما أظهرت العملية من جديد فشل المنظومة الأمنية الإسرائيلية، التي أطلقت عشرات التحذيرات من خطورة وقوع ما أُطلق على تسميته «حوادث أمنية».

أما عن مآلات هذه العملية البطولية النوعية، فإنها ستعمق الشرخ والانقسام في البيت الداخلي الإسرائيلي، سواءً على المستوى العسكري أو السياسي أو الشارع الغاضب؛ الذي لا يرى من سبيل للخروج من المأزق إلا باستقالة نتنياهو وحكومته المتطرفة، وهذا الأخير ما زال يمسك بخيار استمرار الحرب واتساعها، وإدارة الظهر لكل المبادرات والمطالبات بوقفها، والتحذيرات من تداعياتها.

وفي سياق متصل آخر، عكست هذه العملية حالة الاحتقان والغليان في صفوف الشعوب العربية، وحالة الإحباط بانتظار الرد – الذي طال انتظاره – على جرائم الاحتلال واغتيال القادة، لذلك فإن المشهد المقبل للمنطقة ينذر بتطورات وتداعيات خطيرة، وتصعيد تلو تصعيد. وما تصريح رئيس المجلس الإقليمي لغور الأردن لضم وادي الأردن إلى «إسرائيل» إلا تعبير عن النوايا العدوانية التوسعية في أذهان القادة الصهاينة، وعلى رأسهم نتنياهو، والذين يجدون في الأردن الوطن البديل للفلسطينيين، وألا مكان لدولة فلسطينية في ما سماه نتنياهو مؤخرا على الخريطة «يهودا والسامرة»، متعمداً تجاهل تسمية الضفة الغربية.

من الواضح تماماً، أن هذا يكشف ما يكمن وراء استهداف قطاع غزة والضفة الغربية – مدناً وبلداتٍ ومخيمات – من تدمير للبنى التحتية، ولكل جوانب الحياة والإبادة الجماعية بهدف التهجير الطوعي بعد فشل التهجير القسري. إن هذا المخطط اعتبره الأردنيون بمثابة إعلان حرب على الأردن، ويمثل خطراً وجودياً على المملكة، لذلك فإن المظاهرات العفوية التي عمّت المدن الأردنية، خاصةً في عمان وما حملته من لافتات وصور وما عُبرَ عنه بهتافاتٍ أكدت التفاف الجماهير حول المقاومة وابتهاجها بعملية الكرامة البطولية، مطالبةً بفتح الحدود للانضمام إلى عملية طوفان الأقصى، وهذا أيضاً تعبيرٌ عن وعيها لخطورة ما يُخطط له. وكذلك ما جاء على وسائل التواصل الاجتماعي كله يبعث برسائل مفادها: أن الشعوب قوة لا تقهر، وإن الأوطان لا تُحمى ولا تُصان إلا بسواعد أبنائها، وإن الإحتلال إلى زوال، والنصر للمقاومة، والمجد والخلود للشهداء.

وسوم: العدد 1094