سوريا ما بعد عائلة الأسد… آمال مفتوحة ومخاطر عديدة
التطورات الأخيرة في سوريا استحوذت على اهتمام العالم بأجمعه وهمشت المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة صباح مساء. لقد تنوعت الآراء والتحليلات لما جرى في الأحد عشر يوما، التي أطاحت بأعتى نظام قمعي في العصر الحديث حيث قبض على خناق سوريا الأسد الوالد والأسد الإبن لمدة 54 سنة. غالبية الشعب السوري اليوم لا يعرف غير الرئيسين اللذين رفعا شعارا والتزما به «الأسد قائدنا إلى الأبد»، وأضيف إليه مقطع مع انفجار الاحتجاجات الشعبية عام 2011 «الأسد أو نحرق البلد».
وأود أن أدلو بدلوي أسوة بالغالبية الساحقة من الكتاب والمعلقين والمحللين والذين انقسموا إلى قسمين، كما فعلوا عام 2011، فمنهم من رقص فرحا لسقوط النظام، ومنهم من اعتبر أن آخر قلعة من قلاع محور المقاومة والممانعة، سقط وأن الشرق الأوسط الجديد تحت الهيمنة الإسرائيلية قد تحقق الآن. وأنا أميل إلى رأي يجمع بين الموقفين كما فعلت عام 2011 عندما أعلنت أنني مع سوريا لا مع النظام. ففي الوقت الذي سعدت بسقوط النظام الذي لا أجد شبيها له في القمع إلا نظام عائلة كيم الجد والإبن والحفيد في كوريا الشمالية. ولكنني في الوقت نفسه أريد أن أنبه لمجموعة من المخاطر والمطبات والألغام التي قد تتكشف في الأيام المقبلة.
لغاية الآن لم نر عمليات انتقام ولا استهداف للطوائف أو الأقليات. وكان نداء العفو العام عن كل من يرمي سلاحه من الجيش والأجهزة الأمنية خطوة صحيحة يجب أن تليها خطوات أخرى سديدة
– لا احد يستطيع أن يزايد على الشعب السوري في حبه لوطنه. وهذه الملايين التي تدفقت إلى الشوارع تحتفل بسقوط النظام لا أحد يحركها إلا الآلام التي عاشوها، والحسرة على الأحباب الذين فقدوهم في حماة والغوطة ومضايا وداريا والزبداني وحمص وحماه وحلب وغيرها. من حق ملايين اللاجئين أن يفرحوا بعودتهم إلى ديارهم، حتى لو وجدوها مهدمة، وملايين المشردين الذين بدأوا يعودون ومشاعر حب الوطن والبيت والضيعة والحارة تغمرهم. من حق عشرات الألوف الذين التقوا بأحبتهم بعد أن خرجوا من السجون أن يرقصوا في الشوارع، بعد أن فقدوا الأمل في استنشاق نسائم الحرية يوما، بمن فيهم أكثر من 900 فلسطيني ضحايا شعبة فلسطين في المخابرات، عدا آلاف اللبنانيين والأردنيين. ما كشف إلى الآن من جرائم النظام وفساده، لا يتعدى مقدمة لمجلدات، خاصة ما كان يجري في السجون، وسيتم توثيقها للأجيال القادمة، لتقرأ عن هذه الحقبة السوداء في تاريخ سوريا.
الشيء اللافت أن كثيرا من الذين كانوا مع النظام بدأوا يعلنون براءتهم منه، وكان أولهم سفير النظام في موسكو بشار الجعفري، أول من رفع علم سوريا الجديد القديم (الذي اعتمد عام 1932). كما أن بعثة سوريا في الأمم المتحدة رحبت بممثلة الثورة الجديدة وتسلموا العلم الجديد منها، وكانت الابتسامات على وجوههم جميعا. يجب ألا نكون أنانيين، بالسكوت على جرائم النظام ضد شعبه، حتى لو كان يؤيد فلسطين (وذلك موضوع تساؤلات ليس الآن وقت بحثها).
– لغاية الآن لم نر مجازر ترتكب، ولا عمليات انتقام ولا اقتحامات ولا استهداف للطوائف أو الأقليات. وكان نداء العفو العام على كل من يرمي سلاحه من الجيش والأجهزة الأمنية خطوة صحيحة يجب أن تليها خطوات أخرى سديدة، وأهمها حماية الأملاك العامة والمؤسسات. إن التأكيد على حماية الأقليات والسماح بنصب أشجار عيد الميلاد وممارسة الطقوس الدينية بكل حرية، أمور تبشر بالخير ونأمل ألا تنحرف البوصلة إلى اضطهاد الأقليات الدينية والعرقية، وأن لا نرى تجربة طالبان بعد كل التعهدات التي قطعتها.
– لم نر ولم نسمع ولم نقرأ عن أقليات من خارج الوطن السوري شارك في عمليات السيطرة على المدن الواحدة بعد الأخرى، لا شيشان ولا طاجيك ولا أوزبيك ولا تركمان. الواضح أن هيئة تحرير الشام والجيش السوري الحر في السنوات الأربع الأخيرة منذ اتفاقية عام 2020 عملوا على إنهاء المجموعات الصغيرة وطرد الأجانب وتوحيد المجموعات السورية طوعا أو كرها، حتى كادت الحركة الأخيرة تكون موحدة تماما، وهو ما قتل الحراك الأول بعد أن فاضت البلاد بكل أنواع الإرهابيين والمتطرفين والانتهازيين الذين عوموا البلاد بألف فصيل وفصيل. يبدو أن هؤلاء تعلموا (أو لقنوا) بعض الدروس من أخطاء الماضي وقدموا أنفسهم بعيدا عن التطرف والتعصب- نأمل أن يستمر ذلك التوجه لقيادة سفينة البلاد إلى بر الأمان.
– ما من شك، أن النظام ما كان يسقط بهذه السهولة لولا أن الجيش تخلى عن النظام ورفض أن يدخل في معارك دموية مثل السابق، كما فعل جيش مبارك في مصر، وجيش بن علي في تونس. فمعنويات الجيش كانت منهارة، حيث لا يزيد راتب الجندي عن عشرة دولارات والضابط عن 25 دولارا. وقد حاول الأسد أن يغريهم في أول يوم للحراك 27 نوفمبر، بمضاعفة رواتبهم لكنها خطوة جاءت متأخرة جدا ولم تقنع أحدا.
– لا نشك أيضا أن تركيا لعبت دورا محوريا في ترتيب أمور الجماعات المسلحة وتدريبهم وتسليحهم. لقد أحس أردوغان بالإهانة عندما مد يده لبشار وقبل الاقتراح الروسي للقاء الأسد ثلاث مرات، وكان الأخير يرفض اللقاء. لقد نجحت روسيا بترتيب لقاءات بين وزيري الدفاع التركي والسوري، وبين رئيسي جهازي المخابرات، رفض بشار لقاء أردوغان، دفع الرئيس التركي للتدخل بشكل أوسع في ترتيبات الوضع للجماعات المسلحة في محافظة إدلب، خاصة بعد ارتفاع حدة هجمات حزب العمال الكردستاني، وبعد عملية أنقرة على مقر شركة صناعات الطائرات والفضاء يوم 23 أكتوبر الماضي. كما أن أردوغان كان يتعرض لضغوطات داخلية كبيرة، أحس بها في الانتخابات السابقة عندما فشل في الحصول على 51 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى. الوجود السوري كان ورقة انتخابية أضرت بأردوغان، سواء اللاجئين السوريين داخل البلاد الذين يصل عددهم لنحو أربعة ملايين، أو الملايين الثلاثة في إدلب الذين يعتمدون أساسا على المساعدات التركية، ما أرهق الأوضاع الاقتصادية في تركيا وهبط بقيمة الليرة إلى مستوى غير مسبوق.
– روسيا أيضا تخلت عن الأسد ولم تعد قادرة على التورط في حرب مدمرة على طريقة عام 2015 بسبب حرب أوكرانيا وقرار الولايات المتحدة السماح لكييف باستخدام أسلحة بعيدة المدى تطال التجمعات السكانية داخل روسيا. كما أنهم غير راضين عن أداء الأسد بعد أن سلموه حلب عام 2016 ومنذ ذلك اليوم لم يقم بخطوة واحدة لتحسين البلاد وتوسيع نسبة المشاركة والمصالحة الشاملة. فبدل إعادة بناء البلاد تخصص ماهر وفرقته الرابعة في انتاج حبوب الهلوسة «كبتاغون» بكميات كبيرة يصدرها للعالم، خاصة منطقة الخليج عن طريق الأردن ما دفع القوات الجوية الأردنية لشن عدد من الغارات على الحدود مع سوريا.
– يجب ألا نغفل عن أن العلاقات بين النظام وإيران أيضا كانت متوترة بسبب الاختراقات الأمنية واستهداف كل المواقع الإيرانية في سوريا، وعدم دعمه حزب الله خلال مشاركته في إسناد جبهة غزة. ولا نشك في أن حزب الله كان أيضا منزعجا من مواقف النظام بسبب هذا الابتعاد لدرجة أن الأسد لم يعز في استشهاد حسن نصر الله إلا بعد ثلاثة أيام موجها رسالة للمقاومة اللبنانية وليس للحزب. إذن كان الأسد معزولا وعلاقته ليست جيدة لا مع روسيا ولا مع إيران ولا حزب الله. وبعد الهدنة بين لبنان وإسرائيل يبدو أن قيادة هيئة تحرير الشام رأت أن الوقت قد حان للتحرك.
وأخيرا أود أن أؤكد أن التحديات التي تواجهها القيادات الجديدة كبيرة، خاصة أن إسرائيل استغلت الفراغ الأمني والعسكري وتقوم بتدمير كل إمكانيات سوريا الدولة. نتفق أن الأولوية للبناء وعودة اللاجئين والمهجرين وبناء المؤسسات وتنظيم البلاد. لكننا سنحكم على المرحلة الجديدة من خلال الممارسة لا من خلال الشعارات. نريد أن نرى بناء سوريا الحديثة على أسس الحرية والديمقراطية والتعددية وحماية الأقليات والحرية الدينية واحترام حقوق الإنسان وإنصاف المرأة، وقبل هذا وبعده نريد أن نرى دولة القانون والدستور الشامل الذي يتوافق عليه أبناء وبنات الشعب السوري العظيم.
وسوم: العدد 1107