أضواء ميلانو و»صناعة الهولوكوست»

جوزيبي ليفي بيزولي صحافي وأكاديمي ورجل أعمال إيطالي ــ بريطاني يهودي، يتصدر لائحة الأبواق المدافعة عن دولة الاحتلال كلما رنّ ناقوس، أو بالأحرى ومؤخراً: كلما تعذّر على مدينة ميلانو الإيطالية إضاءة مصابيحها لتكريم الطفلين الشقيقين الإسرائيليين أرييل وكفير بيباس؛ اللذَين قتلتهما «حماس» حسب رواية دولة الاحتلال (التي يتبناها بيزولي حرفياً، بالطبع)، وقتلهما رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو (حسب إعلان رسمي من عائلة بيباس، ويتجاهله بيزولي كلياً).

وقبل أسابيع قليلة، صبّ بيزولي جام غضبه على البابا فرنسيس، لأنّ الكرسي الرسولي ألمح إلى عزم الفاتيكان إجراء تحقيق حول احتمال ارتكاب دولة الاحتلال إبادة جماعية في قطاع غزّة؛ أمّا اليوم فموضوع السخط والاتهام والتأثيم هو عمدة ميلانو جوزيبي سالا، لأنه فضّل الظلام على النور، حسب تعبير الصحافي اللوذعي، ورفض إضاءة قاعة البلدية تكريماً للطفلين. وأين، يتساءل الأكاديمي الفهلوي؟ في «مدينة تحدّت القمع الفاشي»، مدينة المنصّة 21 حيث «كُدّس اليهود في قطارات الموت المتوجهة إلى أوشفتز»؛ متغافلاً، هنا أيضاً، عن مبادرة العمدة نفسه إلى تكريم سيدة إيطالية يهودية ناجية من المحرقة عمرها 89 سنة، على مرأى ومسمع الآلاف، وبحضور وفود من عمداء مدن أخرى.

ليست هذه الواقعة جديدة على المشهد العام لانخراط الصهاينة ومجموعات الضغط الإسرائيلية في استغلال «صناعة الهولوكوست»، حسب تعبير شهير من أكاديمي يهودي آخر هو نورمان فنكلستين؛ ما خلا أنّ بيزولي يُدخل تنويعه الخاصّ على التجارة العتيقة: نُصْح عمدة ميلانو بزيارة نصب الهولوكوست، على مبعدة شوارع قليلة من مكتب الأخير، إذْ لعلّ التاريخ يعلّمه الامتناع عن «دغدغة قاعدته السياسية الراديكالية»، حيث «المستنقع الأيديولوجي الذي يرى في كلّ مأساة يهودية مشكلة سياسية أكثر منها إنسانية». في عبارة أخرى، «الظلام» الذي فضّله العمدة على «النور» هو، في الجذور، استنقاع يساري يتجاوز حتى الفزاعة الرائجة حول معاداة السامية!

والحال أنّ بيزولي يعود، مثلما يستعيد، تلك الأحابيل العاطفية التي أدمن استخدامها فريق صهيوني، يشتغل على توظيف الأسى والدموع والأحزان، منطلقاً من مقولة غولدا مائير الشهيرة، التي مزجت المخاتلة بقلّة الحياء: «لن نغفر للغرب أنهم أجبروا أبناءنا على قتلهم». مناحيم بيغن، خلال حصار بيروت 1982، منح هذا الاتجار العاطفي صفة بذيئة متحررة من كل رادع تاريخي أو أخلاقي، حين أعاد تركيب أطراف الهولوكوست المعاصر في معادلة بيروت (ميونخ الجديدة) ــ ياسر عرفات (هتلر ثمانينيات القرن المنصرم). بضاعة بيزولي، في المقابل، تتوخى تسويق مقولة التعاطف مع «الضحية» بوصفها فضيلة الهولوكوست الأولى، ولكن بامتياز يهودي مطلق؛ يُسمح له بين فينة وأخرى أن يكتسي بمسحة كوزموبوليتية، رقيقة أنْسُنية منفتحة تارة، وكثيفة قوموية كتيمة تارة أخرى، تبيح في الحالتين الوصل بين مدينة ميلانو ومستوطنة إسرائيلية في غلاف غزّة.

وفي صلب طرائق تسويق التعاطف، فإنّ المؤسسة الصهيونية بأجنحتها اليمينية القوموية الدينية المتشددة، واليسارية المتصهينة حتى النخاع، والليبرالية الاستيطانية المتعسكرة، إلى جانب فروع لها في مشارق الأرض ومغاربها؛ تلتقي عند ركيزة ناظمة وحاسمة: لا بأس من (بل قد يتوجب) تعميم الهولوكوست شريطة الحرص على عدم تحويله من جريمة كبرى فريد واستثنائية ارتكبها النازيون ضدّ اليهود (تحديداً وحصرياً)؛ إلى جريمة عامة قد تقع هنا وهناك في العالم، وإلى سردية ألم وعذاب ومأساة غير يهودية حصرياً، أو إلى جزء من ظلم الإنسان للإنسان. ذلك لأنّ سقوط هذا الاشتراط سوف يغلق امتياز الكابوس (الذي يتوجب أن يظلّ يهودياً، حصرياً)، وبالتالي يفتح البوابات أمام سيرورات تحوّل العرب (الفلسطينيين) إلى «يهود» على نحو أو آخر، واليهود أنفسهم إلى «عرب» من طراز خاصّ!

وفي تجييش هذه العناصر، وسواها أخرى كثيرة، يساجل بيزولي بأنّ عدم إضاءة قاعات البلدية تكريماً للطفلين الإسرائيليين ليس مجرد قرار إداري اتخذه عمدة ميلانو، بل هو بيان سياسي مناهض لتاريخ مدينة وقفت على الدوام ضدّ الظلمات؛ ليس بالمعنى المجازي وحده، كما يبشّرنا بيزولي، بل بالمعنى الحرفي والعملي والمادّي: من حيث المظهر هو اتقاء شرّ إغضاب القاعدة الأيديولوجية للعمدة وتحالفاته السياسية، ولكنه من حيث المحتوى الأعمق (في ناظر بيزولي رجل الأعمال هذه المرّة) يحرم المدينة من أضواء التجارة الرائجة المجزية، حيث «صناعة الهولوكوست» إياها.

وذاك، بالتالي، «بيان بعدم الاكتراث، بالجبن الأخلاقي، بعدم الاستعداد للاعتراف بمعاناة اليهود إلا إذا تمّ تأطيرها ضمن سردية أكثر ملاءمة»، يكتب بيزولي؛ متهماً سالا بتكريس «ميلانو خائنة لماضيها، تخمد ضياءً يحكي أعلى من ألف خطاب»، حيث ظلمات المدينة تفضح ما هو أبعد بكثير مما تقصده العمدة. أمّا عند بيزولي، فإنه ليس أقلّ من مناسبة للتذكير، بأعنف لغة ممكنة وأشدّها خلطاً اعتباطياً للمفاهيم، بأنّ اليهود ليسوا شعب الله المختار طبقاً للتوصيف التوراتي فقط؛ بل هم أيضاً، وأوّلاً في الأزمنة الراهنة، دولة احتلال تمارس جرائم الحرب والإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين، وتقصف أطفالها الإسرائيليين أنفسهم، ثمّ تطالب العالم بتكريمهم تحت خانة «ضحايا الإرهاب».

حصيلة متكاملة مترابطة في العرف الصهيوني، مُلزمة للبشرية جمعاء، أياً كانت مقادير احتكار تجارة الألم وافتضاح صناعة العذاب.

وسوم: العدد 1117