المقامرة الهندية الكبرى

مع استضافتها لقمة العشرين في سبتمبر 2023 عملت الحكومة الهندية على إخفاء المناطق العشوائية الفقيرة، من خلال يافطات دعائية عملاقة، قامت بدور الجدران المؤقتة، وعملت على إخلاء آلاف الباعة الجائلين والمتسولين بواسطة إجراءات أمنية متشددة، للدرجة التي لا يمكن لمعظم الضيوف من وفود الدول الأقوى اقتصاديا في العالم أن يزعموا رؤيتهم للهند الحقيقية، أو يتأكدوا من أن الهند التي عاينوها في تلك الأيام هي التي يمكن أن تعتبر محطتهم الجديدة، لقيادة مسار تجاري عالمي جديد ينافس المسار القائم في الصين.

كان العالم قد بدأ التعافي من أزمة وباء كورونا في ذلك الوقت، ولكنه لم يعد ذلك العالم، الذي بقي مستمرا لعقدين من الزمن، على الأقل، شهدا صعودا هائلا للصين لتتحول من دولة فقيرة ومحدودة الإنتاجية، إلى دولة تدير اقتصادا هائل الحجم والتأثير لتصبح أزمة الإغلاقات الصينية والتعطل الكلي والجزئي في مرافق صناعية كثيرة، سببا لأزمات متتابعة في العالم منها، مشكلة سلاسل التوريد التي أظهرت مدى الاعتمادية العالمية على الصين في الكثير من الصناعات الحيوية، ولكن الاقتصاد لم يكن السبب الرئيسي في الحديث عن البدائل المحتملة للصين. أصبحت الصين مع الوقت أكثر قوة من مجرد محطة للإنتاج الرخيص، ولم تعد مضطرة لتصدير جانب من معاناة مواطنيها، بجانب البضائع الرخيصة، أو داخلها، لأن هذه البضائع توفرت في المراحل الأولى، لأن العامل الصيني يتقاضى أقل بكثير من نظرائه في محطات أخرى كثيرة، ومع الوقت، لم تعد هذه المعادلة قائمة، فالصين أخذت تشهد توسعا متسارعا للطبقة الوسطى، ويعزو كثيرون ارتفاع تكلفة الغذاء في السنوات الأخيرة إلى ارتفاع القدرة الاستهلاكية للصينيين، وكأن ذلك ليس من حقوقهم، وكأن العالم يكتشف فجأة أن للصينيين أسنانا يمكن أن تمضغ اللحوم وألسنة تتلذذ بالفواكه.

البديل المطروح كان الهند، التي تجاوزت الصين في التعداد السكاني في السنوات الأخيرة، وتمكنت من تخريج نخب واسعة من العاملين في مجالات التكنولوجيا والإدارة، ما يجعلها مؤهلة للدخول في رحلة من التنمية الاقتصادية، بعد عقد من معدلات النمو المرتفعة، فما زالت الهند نموذجا مفضلا للاختلال في العدالة الاجتماعية، حيث تتجاور مظاهر الثراء الفاحش مع الفقر الفادح، كما أنها لم تغادر منطقة التنمية البشرية المتواضعة، مع وجود نحو ربع السكان في خانة الأمية الكاملة، وريف واسع وكبير خارج الأولويات الحكومية، يبقى فجوة عدمية تلتهم بمشكلاتها وتحدياتها ما يتحقق في المدن، بما تصدره من فقر وجهل مع ملايين المهاجرين، الذين يبنون النموذج العشوائي في الهند. يبدو أن رئيس الوزراء الهندي تمكن في الحدث الكبير لقمة العشرين من مغافلة ضيوفه بالألوان الزاهية للافتات الكبيرة، التي أخفت وراءها واقع الهند، ليتقدم بصورة كبيرة مشروع الطريق التجاري الجديد، الذي يربط الهند بأوروبا، من خلال منطقة الشرق الأوسط، وهو المشروع الذي تلقفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتحول إلى المسؤول الأول لتسويقه لأنه يجعل (إسرائيل) المنصة الرئيسية للتحميل وإعادة التفريغ وإدارة اللوجيستيات، قبل أن تنطلق البضائع الهندية إلى أوروبا، ويبقى التساؤل حول طبيعة هذه البضائع وتنافسيتها، وقبل ذلك كله، قدرة الهند على إدامة الإنتاج والتوريد، في ظل نظام فيدرالي تبقى قدرته على إدارة المشكلات محدودة في اعتبارات الصراع السياسي المتواصل، الذي ربما تحاول الهند أن تواجهه بسلطة حزب بهاراتيا جاناتا وقيادة ناريندرا مودي، ولكن يبدو أن الحزب الواسع الانتشار في الهند يفتقد إلى العمق، أو لا يقدم دليلا على قدرته على تقديم نموذج مماثل لما يقدمه الحزب الشيوعي الصيني، في إدارته للدولة والاقتصاد من بكين.

يتطلع العالم اليوم إلى وليمة اللحم الهندي، لحم مئات الملايين من العمال الذين يمكن أن ينكبوا على الماكينات لساعات طويلة، وفي ظروف تهوية وأمن صناعي سيئة، من أجل تصدير بضائع في متناول الطبقة الوسطى، تسترضي نهمها المتزايد في نموذج قائم على الاستهلاك المفرط، ولكن النموذج الذي يبحث عن الهند بمبررات الزخم السكاني الهائل، ليس بالضرورة هو النموذج الذي تبحث عنه الهند أو يناسبها، فالهنود متشككون في قدرة حكومتهم، التي تمعن في سياساتها النيوليبرالية وتنقلب بصورة تدريجية على مبادئ كثيرة مؤسسة في الدولة والمجتمع في الهند، على الاستفادة من رحلتها مع التنمية المنشودة لمصلحة جميع الهنود، وبعضهم يتخوفون من استعمار جديد يجعل الهنود يقومون باستغلال أنفسهم لمصلحة الآخرين. تعد الثقافة التي تسود شعبا معينا مؤثرة في قدرته على ممارسة الإنتاج، والثقافة الهندية، وبعد رحلة عقود من الاستقلال تبدو محبطة للغاية، فالمجتمع يميل إلى الاستقطاب والانقسام بصورة تغذيها قوانين وممارسات مستجدة، بعد أن كانت أمرا واقعا، تنفيه الدولة الهندية وتعتبره خارج فلسفتها، والصراع في الهند وحولها بين الهنود أنفسهم أمر يمكن أن يطرح نفسه مع الوقت، ليشكك في الافتراضات الأساسية التي تجعل البعض يفكر في مستقبل الصعود الهندي، وأهم الانقسامات ومواطن التوتر يتشكل بين الهندوس والمسلمين، خاصة بعد قانون الجنسية 2019 الذي جعل المسلمين يشعرون بوجود تحيز ضدهم ينضاف إلى المحاولات المستمرة لإضفاء الصبغة الهندوسية على الدولة.

الأمر لا يتوقف عند الاستقطاب الهندوسي ـ الإسلامي، ولكن مشكلات فرعية أخرى كثيرة تطل برأسها، مثل الأزمات الأمنية في البنغال مع المتمردين الناكسال، والحركات في أقاليم مثل مانيبور التي تسعى إلى الانفصال على أسس عرقية، ونتاجا لواقع التهميش الذي تعيشه، بالإضافة إلى الصراع في كشمير، الذي لا يعني مجرد إقليم متمرد بقدر ما هو تهديد متواصل من دولة تعتبر عداءها مع الهند وجوديا وجذريا، ومع أن الصين لا يمكن أن تخلو من مثل هذه المنغصات الاستراتيجية، إلا أن حدتها تظل أقل كثيرا من جارتها ذات الأجواء الحارة في الطبيعة وفي الواقع السياسي والاجتماعي.

ويبقى الحزب الشيوعي الصيني بمركزيته وبنيته الهرمية وقدرته على محاورة الثقافة ـ الثقافات المحلية ـ عاملا حاسما بالمقارنة مع البنية السياسية الهندية التي تحمل داخلها عوامل قلقة كثيرة، ولا يمكنها أن تقدم ضمانات من أي نوع لسلامة واستدامة نموذج يحتاج إلى قدر كبير من السيطرة والتنسيق والقدرة على الاستجابة. هل يعتبر النظر إلى العالم من وجهة نظر الخرائط والأرقام مدخلا لارتكاب الأخطاء الكبرى، ومنها الاستبدال المرتقب للصين بالهند؟ ومن يمكنه أن يتحمل تكلفة خرافية لقرار مثل ذلك، وما هو الأثر الذي سيتركه طريق يعيش على فوهة بركان هندي محتمل بين وقت وآخر، في حالة فشل المشروع أو ضعف أدائه، وعدم قدرته على تشكيل البديل الكامل؟ وما أثر ذلك على الدول التي سترتبط بمشروع الطريق وتتحمل تكاليف هائلة مادية وغير مادية، من أجل طرحه على الطاولة؟

كل هذه الأسئلة تبدو معلقة وتائهة في الصخب الذي صنعه رئيس الوزراء الهندي في قمته الشهيرة، وبطبيعة الحال في العدوان القائم على قطاع غزة، والذي تصادف أنها المحطات الإجبارية للطريق ومستقبله، لتدفع ثمنا مجنونا وكارثيا في مشروع يمكن أن يظهر بعد سنوات ليست بالبعيدة بوصفه الخدعة الهندية التي ينتجها بوليوود سياسي وعالم يفقد بوصلته مع رجال تحركهم اللوحات الملونة والرسومات البسيطة مثل ترامب ونتنياهو.

وسوم: العدد 1123