ارتفاع معدلات العنف ومخاطر انهيار السلم العالمي
ارتفاع معدلات العنف
ومخاطر انهيار السلم العالمي
علي حسين
مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام
ثمة هاجس يعيشه العالم أجمع، ويخشى عواقبه الجميع حتى اولئك الناس البسطاء، يتمثل هذا الهاجس بإمكانية نشوب حروب كبرى جديدة، تؤدي الى انهيار تام للسلم في عموم العالم، حيث تشير كثير من الدلائل، الى احتدام حالات الصراع، وتضارب المصالح، بين الدول التي توصف بـ العظمى والتابعة لها، وتنطلق هذه الدول من حسابات دقيقة ذات أبعاد أنانية (ضيقة)، تركّز قبل كل شيء، على حماية المصالح القومية لتلك الدول، بغض النظر عن النتائج والعواقب الوخيمة التي تتمخض عن تلك النزعة الذاتية البحتة.
ان ظاهرة العنف والاحتراب باتت تهدد السلم العالمي، إذ تتصاعد الاعتداءات على الابرياء، ويتفنن المعتدون بطرق القتل، وبدلا من ابتكار السبل التي ترتقي بالحياة، هؤلاء يبتكرون طرقا جديدة للموت، وقد اشارت احصائيات موثوقة الى قتل آلاف العراقيين الابرياء في سرادق العزاء او مدارس الاطفال او الاسواق العامة! فقد ذكرت احدى المنظمات المعنية بجمع احصائيات ضحايا أعمال العنف في العراق إن نحو 112 ألف مدني على الأقل قتلوا في البلاد منذ دخول القوات الأميركية لإسقاط نظام صدام قبل 10 أعوام. وأشارت المنظمة إلى أن معدلات العنف لا تزال مرتفعة في البلاد، إذ يقتل كل عام بين أربعة وخمسة آلاف شخص، أما في سوريا فقد اخذت وتيرة العنف تتزايد بصورة لافتة، كذلك الحال في مصر التي تفقد في كل يوم عشرات الضحايا بسبب اعمال العنف السياسي والطائفي.
لهذا لقد دأب مفكرون في مختلف دول العالم، على القيام بمحاولات حثيثة، وبذلوا جهودا كبيرة متواصلة، لتشخيص العوامل والدوافع التي تهدد السلم العالمي، واجتهد مصلحون كبار، في وضع الرؤى الكفيلة بتحييد نزعات الشر، وتجفيف بؤر الاحتقان، والتمهيد لخلق حالة من التوازن تحكم مصالح الدول الكبرى، ولكن تبقى ارادة الصراع، واحتدام المصالح وتضاربها، تتفوق دائما على ما يتم طرحه من حلول وبدائل، والسبب يكمن دائما في عدم استعداد الدول الكبرى للتنازل عن بعض اهدافها، وغالبا ما تعلن ان مصالحها الجوهرية (أو القومية) غير قابلة للنقاش!، وهي تسعى فعلا في هذا الاتجاه بصورة سرية تارة ومعلنة تارة اخرى، والنتيجة الاكيدة لمثل هذا التضارب والصراع الحاد، هو نشر حالة من الخوف والقلق والاحتقان الذي يهدد الانسانية بنشوب حرب لا تبقي ولا تذر، حرب كونية قد تكون الاسلحة المستخدمة فيها غير تقليدية، الامر الذي يهدد بانهيار شامل للسلم العالمي.
الجريمة والعنف وتراجع السلم!!
تؤكد دلائل كثيرة على أن الأسباب التي تقف وراء العنف في الشرق الاوسط، والعالم عموما عديدة ومصادرها كثيرة لكنها ليست خفية او غامضة، وباتت تشكل خطرا داهما على الاستقرار العالمي، الامر الذي دفع بدول كثيرة، حتى تلك التي تنطوي على نزعة شر، أو تسهم بطريقة واخرى بتغذية العنف، الى الدعوة لإقامة مؤتمرات وفعاليات تدعم السلام وتناهض الحرب، ومن الواضح أن مثل هذه الدعوات حتى لو كانت شكلية او ذات دافع صوري، إلا انها تدل على حالة القلق العالمي من تزايد بؤر العنف في العالم !!. ولذلك باتت الاسباب التي تغذي العنف واضحة، وهي تتمثل في حالات استخدام القوة المعتدية من لدن القوى الكبرى.
لهذا يصف سماحة المرجع الديني، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي العنف بأنه: (استخدام القوة المعتدية). إن هذه التوصيف على الرغم من تلخيصه لتعريف القوة والعنف، يعطينا رؤية واضحة عن العنف، ويضع جانبا من الاجوبة المطلوبة بين أيدي الباحثين عن الأسباب التي تقف وراء التوتر العالمي المتصاعد، لاسيما في دول الشرق الاوسط.
وإذا كان العنف عبارة عن استخدام مفرط للقوة، فإن الحقائق تؤكد ان الدول القادرة على استخدام القوة لا تتردد في ذلك، لاسيما عندما يتعلق الامر بحماية المصالح القومية (كما تدّعي)، لذلك هناك مسوغات لتصاعد العنف العالمي، بمعنى أن العنف لا ينمو او يتحرك من دون سبب، بل هناك استخدام خاطئ للقوة، تلجأ إليه دول قوية ضد أخرى ضعيفة، وقد لا ينحصر شكل العدوان بالوسائل العسكرية، او الاعتداء العسكري التقليدي، بل هناك عدوانات تتخذ اشكالا كثيرة، منها الاقتصادية، او التدخل في الشؤون الداخلية، او زعزعة الامن الداخلي، من خلال اثارة البلبلة والقلاقل في الدول الضعيفة وهكذا يتم استعمار واستغلال الدول والشعوب الصغيرة والضعيفة من لدن الدول ذات المصالح الكبرى.
يضاف الى ذلك ضعف الوعي السياسي والاقتصادي، فضلا عن العسكري للدول الصغيرة، التي تمتلك ثروات هائلة، فهذه الدول على الرغم من الغنى الذي تتمتع به، بسبب ثرواتها المعدنية لاسيما النفطية، إلا انها في الغالب تفشل في ادارة ثرواتها، وتجعلها نهبا للفساد الداخلي، اضافة الى تبعيتها للشركات او للدول الكبرى التي تأخذ منها الكثير، ولا تترك لها سوى الفتات دائما، من خلال اثارتها للعنف في هذه الدول الضعيفة اصلا.
من هنا فإن الحد من العنف والذهاب نحو الاستقرار، يستدعي مكافحة معرقلات الامن على الصعيدين الخارجي والداخلي، ومنها مكافحة الجريمة والحد من اضرارها الفادحة، هنا يشرح لنا سماحة المرجع الشيرازي الرؤية الاسلامية للأمن فيقول: (يرى الاسلام وجوب استتباب الامن، في الداخل، وفي الخارج، ففي الداخل ينفي الجريمة، وفي الخارج لا يتعدى على احد).
ولكن لو ألقينا نظرة على معدلات الجريمة في العالم، فإننا سنصاب بالدهشة حتما لكثرتها، كمّا ونوعا، ويساعد تعدد وتنوع اسباب الجريمة ايضا، على مضاعفتها، وهي بالتالي اسباب تشترك في خلخلة الامن العالمي، اما اسباب الجريمة فهي كثيرة، إذ يرى احد المفكرين الباحثين في ظاهرة الجريمة وتراجع السلم العالمي بأن (الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة ومستمرة لازمت الإنسان منذ بدء الخليقة، وما زالت تلازمه بأشكال وصور شتى. وستبقى ما دام في النفس البشرية طمع وميل وهوى وقدر مــن الفجــور، وما دام هناك شيطان يوسوس للنفس الأمارة بالسوء ويشجعها أو يغريها على اقتراف الإثم؛ فإن الجريمة تبقى قائمة).
وقد شخّصَ سماحة المرجع الشيرازي أسباب الجريمة بقوله أن الاسلام: (ينفي الجريمة من جذورها، ويعالج اسبابها، فإن اسباب الجريمة هي – الفقر- المغريات- الجهل- العداء- المشاكل- وما اشبه ذلك، والاسلام يعالجها حتى ينفيها، فاذا انتفت اختفت الجريمة تلقائيا).
معالجات الانهيار الامني
يتفق المراقبون والمعنيون بالشأن الامني على المستوى العالمي، أن هناك دلائل تشير الى زعزعة الامن في بقع كثيرة من العالم، ولعل اشدها خطورة، ما يحدث الآن في منطقة الشرق الاوسط، فهذه المنطقة التي تضم في باطنها ثروات طبيعية هائلة، تتعلق بالطاقة النفطية وسواها، تجعل منها ساحة صراعات متواصلة، تتصارع فيها ارادات الدول الكبرى التي تتكالب عليها، بحجة معروفة وغالبا ما تكون معلنة وهي (حماية المصالح القومية)، بغض النظر عن مصالح الآخرين والتجاوز على ثرواتهم!.
لذلك غالبا ما يلاحظ المراقبون، أن طبيعة السياسة التي تنتهجها الدول الكبرى حيال الدول ذات الثروات الطبيعية الهائلة، تقوم على زرع الفتن والصراعات والاحتراب الطائفي والعرقي والديني، والهدف من ذلك هو إضعاف النسيج المجتمعي لتلك المجتمعات الضعيفة اصلا، والسيطرة على الارادة السياسية لتلك الدول، ونشر روح التطرف فيما بينها، لكي تنشغل تلك الشعوب بالاحتراب، وينفتح الطريق واسعا للدول الكبرى، فتنقض على مصالحها بقوة.
أما الضعف الذي ينتاب المجتمعات الصغيرة، وانتشار الجريمة، والموت المجاني، فهو السبيل الأسهل والأقصر للدول الكبرى نحو أهدافها، من هنا دعا الاسلام بقوة الى مكافحة الفتن والجرائم بأنواعها، وطالب باجتثاث العوامل التي تؤجج الحروب والاقتتال، بل على العكس من ذلك لابد من ايجاد منظومة وعي، تعمل على تثقيف المجتمع، وتحد من حالات الصراع بين مكوناته، ومن ثم تعضيد الارادة السياسية والسعي الدائم لتحقيق الاستقلال الاقتصادي، والاكتفاء الذاتي الذي طالما اشار الخبراء الاقتصاديون الى اهميته في تحقيق حصانة قوية للدولة والمجتمع من الانتهاك الذي قد تتعرض له الثروات الطبيعة بطرق شتى، واساليب لا تخلو من الخبث، طالما تلجأ إليها الدول الكبرى من خلال شركاتها الضخمة، واذا عجزت عن طرق الاحتيال واثارة الحروب بالوكالة، لا تتردد من غزو الدول الضعيفة بالقوة او ما يسمى بالاحتلال العسكري المباشر.
إن معالجة الانهيار الامن العالمي الذي يلوح في الافق، يستدعي جهودا دولية تقودها المنظمات الاممية المستقلة عن ارادة القوى الكبرى، فضلا عن تعزيز التعاون بين دول العالم المستهدّفة، إذ لابد من تحقيق صيغة قوية لتعميق الروابط بين الدول التي تجد نفسها محاصرة من لدن الدول الطامعة، وكذلك لابد من العمل الجماعي لمكافحة بؤر الاحتقان العالمي، والابتعاد عن السلوك المتشنج والافكار المتطرفة، وتحصين الرؤى الانسانية من الزلل.
إن الجهد المطلوب للحد من مخاطر انهيار السلم العالمي، لا يمكن أن يتم من خلال محاولات فردية او اقليمية، أو سياسات ارتجالية تخلو من التخطيط، والاتفاق الجمعي على مستوى دول العالم كافة، بل لابد من فضح الجهات والمخططات التي تستهدف السلم العالمي، والعمل على ترصين روح السلام، الذي لا يمكن ان يتحقق من دون العمل الدولي الجماعي لمكافحة اسباب الانهيار التي قد تطيح باستقرار العالم اجمع.
من هنا كانت ولا زالت رؤية الاسلام للسلم، كما يؤكد على ذلك سماحة المرجع الشيرازي قائمة (على نشر الامن والامان والسلم والسلام في العالم، والسعي في اطفاء نار الحرب، واخماد لهيبها، وانتزاع فتيلها من بين الناس، باجتثاث العوامل الداعية للحرب، وزرع العوامل المشجعة على المحبة والوئام).