حول اختراق المخابرات العالمية للجماعات الإسلامية
حول اختراق المخابرات العالمية للجماعات الإسلامية
محمد عبد الرازق
في البداية أحب أن أوضح أني لن أكتب هنا كمحلل سياسي كما اعتدت أن أكتب على صفحات المواقع؛ بل بصفتي مقربًا من الجماعات الإسلامية، و أعرف عنها شيئًا من الأمور، و من خلال قراءة لتاريخها في عدد من المواقع.
إنَّ ممَّا تعلمته من تجربتي مع الحركات الإسلامية أن الجهاد حركة عنيفة تفقد اتزانها إن لم تضبط بالشرع والشورى؛ فبالأول يعرف الحق، وبالثاني تعرف المصلحة.
إن المحاولات الناجحة للمخابرات في اختراق الجماعات الجهادية كانت تستهدف الأساس الشرعي، وهو المنهج، والأساس التنظيمي المتمثل بالشورى.
لقد كان الجهاد في الجزائر في بداياته مدعومًا من الشعب والحركات الإسلامية، وكان شبيهًا بما يحدث الآن في سورية من اتحاد الجميع ضد الأسد.
فلقد كانت الكتائب الجهادية تقاتل جنبًا إلى جنب، والعلماء يثبتون ويصححون، والفِتية يراقبون تحركات الدرك، والنساء يصنعن الطعام للمجاهدين.
وكان أنصار الجهاد في أوربا قد شكلوا مركزًا إعلاميًا، وجعلوا إدارته لأبي قتادة الفلسطيني، وأبي مصعب السوري، وكان الأول شيخ علم، والثاني خبيرًا عسكريًا.
وعندما أرادت جنرالات فرنسا في الجزائر قمع هذه الثورة الجهادية التي اشترك فيها الصغير والكبير، وقفت هذه اللحمة وهذا التكاتف حائلاً دون ذلك. هنا استحضرت المخابرات الفرنسية تجارب الجستابو، وأجهزة أمن أوربا الشرقية في إجهاض الحراك المسلح من الداخل، وهو ما أطلق عليه الثورة المضادة. و ذلك من خلال اعتماد فكرة الاختراق، و هي فكرة تقوم على السيطرة على مركز قرار الجماعة؛ ليتمَّ إدخالها بمواجهة تدريجية مع الشعب ليتوقف دعمه ويلتجأ للسلطات طلبًا للحماية.
و لقد ساعد استجواب المعتقلين الجهاديين لدى المخابرات في دراسة فكر وكيان الجماعة الإسلامية المسلحة وهي أكبر الجماعات الجهادية آنذاك.
هذه الدراسة مهدت لتجنيد قائد ميداني يدعى "زيتوني" وكانت الخطة تهدف اغتيال قائد الجماعة الإسلامية وتنصيب الزيتوني مكانه. بعد الاغتيال تم إعلان بيعة للزيتوني في ظروف غامضة وبداعي صعوبة التواصل مع بقية القيادات فمرَّ الأمر، ووافق الجميع درءًا للنزاع.
عندما استلم الزيتوني بدأ باستدعاء القادة والكوادر المتميزين، وتم تصفيتهم، ولصق التهمة بالنظام، وتعيين آخرين للشروع في الخطوة الأهم.
و لمّا أصبح الزيتوني بلا ندٍ يستطيع أن يقول له "لا" بدأ بتغيير الطابع الفكري للجماعة فجعلها الدولة الإسلامية التي يكفر أو يأثم من لا ينتمي لها.
و حتى يضفي على هذا الأمر طابعًا شرعيًا طلب من الشيخ أبي قتادة فتاوى تقضي بأن جماعته هي الجماعة الأم والسلفية الحقة. وانساق الشيخ معه بدافع النصرة.
بعد أن نجحت المخابرات في اختراق الأساس التنظيمي؛ ألغت الشورى لتصبح القيادة فردية والأساس الشرعي للجماعة والمتمثل بالمنهج، و هنا بدأ المخطط.
بدأت القيادة المخترقة بإرسال السرايا لاستهداف الأهالي بحجة تعاونهم مع الجيش ومهد لذلك بفتاوى التكفير والردة وبدأت الدماء تسيل.
عندما اُستدرِجَ المجاهدون للخطوة الأولى في قتل الأهالي بدأت قوات الدرك بلبس الزي الأفغاني وتركيب اللحى لترتكب المجازر باسم المجاهدين.
طوال هذه الفترة كان مناصرو الجهاد مستمرين بالدعم الإعلامي وهذا ما جعل بقية المجاهدين يظنون أن الأمور طيبة، وأن ما يحصل من تجاوزات أمرٌ مبرر.
و زيادةً في الاحتياط قامت القيادة المخترقة بمنع دخول الكوادر من خارج الجزائر وعزل المجاهدين في الجبال حتى لا يعرفوا حقيقة الأوضاع.
هذا المخطط ظل يسري بخفاء، ولم يتخيل أحد بوجود اختراق سوى أبي مصعب السوري من خلال مراقبته للخط السياسي والعسكري للجماعة الإسلامية.
لم يصدق أحد ظنون أبي مصعب السوري إلا بعد أن نجَّى الله بعض المجاهدين الليبيين من حصار معسكرات الزيتوني ليكشفوا مآسي لم تخطر على بال مسلم.
انتهى هذا المخطط بنجاح باهر للمخابرات بعد نفور الناس من المجاهدين، وتفكك مكونات الحراك الثوري وأصبحت تجربة تدرس في الأكاديميات الأمنية.
أشعر أني قد أطلت الحديث عن تجربة الجزائر؛ و ذلك لأنها شبيهة بما حدث في العراق، و بما يحدث الآن في سورية؛ إلا أن الاختراق في قيادة العراق أشد مكرًا ودهاء وخفاء.
منذ بداية الجهاد في العراق أيام أبي مصعب الزرقاوي، وحرب المخابرات على قدم وساق، وقصص العملاء ومشايخ الموساد معروفة.
كان الجهاد العراقي يحظى بدعم وتعاطف شعبي وعربي وإسلامي كبير، وقدَّم الكثير من التضحيات التي كُسِرَ على إثرها ظهرُ الحملة الصهيوصليبية.
بعد الفشل العسكري الذريع لجأت مراكز البحث لدراسة التجربة الجزائرية في إجهاض الحراك الشعبي الجهادي المتنامي.
أتى البيت الأبيض بوزير دفاع كان يعمل في إدارة العمليات القذرة للسي آي إيه، و أتى بباتريوس صاحب السجل الطويل في قمع الحروب الشعبية.
في هذه المرحلة بدأت الجماعات الجهادية تتهاوى أمام محاولات الاختراق، وبدأ مشروع الصحوات، ولم يصمد سوى دولة العراق الإسلامية وأنصار الإسلام.
في فترة الزرقاوي والشيخين من بعده كانت هناك تجاوزات بفعل سخونة الحرب، ومرارة المؤامرات؛ إلا أن الحراك الجهادي لم يفقد اتزانه.
فشخصية الزرقاوي ووفرة القادة المهاجرين ذوي التجربة جعلت مستوى الانضباط كبيرًا، واستمر ذلك بدرجة أقل في عهد البغدادي والمهاجر.
إلاَّ أن الاختراقات التي حققتها المخابرات الأردنية ومخابرات المالكي بين المجاهدين تسببت في قتل الزرقاوي ثم أبي عمر البغدادي، والمهاجر.
عندما استلمت القيادة الجديدة ممثلة بأبي بكر البغدادي دولة العراق الإسلامية استمرت بنفس السياسة السابقة للشيخين إلا أن المسار الاستراتيجي بدأ يتغير بعد ذلك.
فقيادة أبي بكر البغدادي ركزت جهودها على حرب الصحوات بشكل أراح القوات الأمريكية، وجيش المالكي، وأصبحت الحرب بين أهل السنة، وبلا أفق لنهايتها،
المريب في طريقة التعامل مع الصحوات أنها كانت تؤدي لزيادة المشكلة لا لاحتوائها؛ فاستهداف زعماء العشائر كان وقودًا لدخول عشائرهم في الحرب.
بعد مقتل الشيخين حدث ارتباك تنظيمي، وأصبحت هناك اجتهادات دون ضوابط، وبلا علم القيادة في بعضها، ومن هنا بدأت مسيرة الانحدار.
بعد تراجع الجهاد، ونفور أهل السنة من المجاهدين؛ بدأ المجاهدون في الدولة بالكشف عما رأوا من تجاوزات كانوا يظنون أنها سياسة رشيدة.
فلقد كانت القيادة الجديدة، ومازالت ترفض سماع النصائح من الخارج؛ بل وتفصل أيَّ جندي تابع لها يتفوه برأيه المعارض للسياسة المتبعة.
إن المشكلة في القيادة الجديدة أنها وظفت عملياتها بشكل يتناغم مع مصالح المالكي وإيران؛ ومن هنا بدأت الشكوك تُثار حول ما يجري من خطوات أبي بكر البغدادي.
فالانحراف الشرعي والتنظيمي لم يكن واضحًا في البداية؛ إلا أن اشتعال الحراك الشعبي في العراق جعله أشد وضوحًا.
و مع بداية الربيع العراقي عادت التفجيرات في الأحياء الشيعية بشكل مريب، وبلا مناسبة سوى إفساد الحراك الذي خرجت بيانات الدولة بتأييده.
و مع تنامي الحراك الشعبي عادت الاغتيالات لتطال بعض من خرج على المالكي؛ مع أن المصلحة كانت تقتضي دعم الحراك بحسب البيان لا تنفير الناس منه.
حتى ذلك الوقت لم يخرج الأمر عن دائرة الشكوك إلا أن الأمور بدأت تتكشف مع الوقت وبشكل أكَّدَ وجود نوع من الاختراق في القيادة.
من المعروف أن الجماعة الوحيدة التي وقفت إلى جانب الدولة ضد الصحوات وضد حملات التشويه هي جماعة أنصار الإسلام.
هذه الجماعة وبدون مناسبة صدرت أوامرُ من قيادة الدولة باستهدافها واستفزازها؛ لدرجة وصلت إلى حدِّ استباحة دمائهم.
وقد قدمت أنصار الإسلام شكوى رسمية لقيادة تنظيم القاعدة تطلب فيها التدخل لوقف الاعتداءات، وإلاَّ فستعلن الحرب على الدولة العراق الإسلامية.
هذه نسخة أصلية من شكوى جماعة أنصار الإسلام من تجاوزات دولة العراق الإسلامية http://www.gulfup.com/?zCGULr
وبعد أن تحويل الأمر لقيادة القاعدة في خراسان اتضح لاحقًا أن قيادة الدولة سوغت انحرافها الجديد بأنها الجماعة الأم ولا يحق لغيرها الوجود، و هو عين ما فعلته في سورية عندما أراد البغدادي جعل جبهة النصرة تابعة له، و إلاَّ فعليها انتظار الويل و الثبور.
هذه الانحرافات الشرعية والتنظيمية هي نفسها التي جرت في الجزائر، وسوغها مشايخ لا يعلمون حقيقة القيادة وجمهور يكبر مع كل تفجير.
هناك تذمر واستغراب في أوساط شباب الدولة؛ إلاَّ أن ثقتهم بتاريخ الدولة، وحجم المؤامرات عليها جعلهم لا يصرحون بذلك، ومن هنا تستمر الأخطاء.
يجب ألا يعمينا تعودنا على سماع تجاوزات الدولة منذ البداية على عدم ملاحظة الفرق الذي حدث في الأعوام الأخيرة؛ فهناك اختراق واضح ويجب الكشف عنه.
إن التوقف عند ما حصل في العراق يمكن أن ينقذ الأمور في سورية اليوم، وهو بأن يسأل المجاهدون أنفسهم لماذا نستعدي الناس بهذه الطريقة ومن المسؤول ؟
يجب أن يتتبع الإخوة في الدولة مصدر هذه الأوامر، وعلى أي أساس صدرت وما المصلحة منها؟ فبمثل هذا الحوار الداخلي ستتضح الصورة.
إن ما دعاني لكشف هذه الأمور التي جمعتها من خلال متابعاتي لأوضاع دولة العراق الإسلامية في العراق، هو ما تخطط له الأطراف التي اخترقت الدولة في الساحة السورية، فهم يريدون إجهاض الجهاد السوري كما فعلوا في العراق.
هناك ملف لن أفتحه الآن ولكن يكفي الإشارة أن ما كشف من مؤامرات ببداية الجهاد السوري كان منبتها من العراق؛ ومن هنا بدأ الشك عند المتابعين للأمر في سورية.
إن الأطراف التي اخترقت الدولة لم تكتفِ بمحاولة فرض نفسها على جبهة النصرة؛ بل انخرطت في عملية دنيئة للسعي في إحداث اِنشقاق داخل الجبهة.
إن هناك حرب مخابراتية تجري حاليًا في سورية، ولولا أن الله يسر لهذا الجهاد قيادات واعية تتواصل مع أهل العلم والدراية وتلتزم بالشورى لكن غير ما ترون.
و مع ذلك فالحذرَ الحذرَ ممَّا يحيكه المخابرات العالمية بالتواطؤ مع مخابرات الأسد، و المالكي، و إيران. و عدد من مخابرات دول تعلن صداقتها للشعب السوري.
فهل نجت من ذلك: الدولة الإسلامية في العراق والشام؟