السلفية .. أزمة الإرجاء والخروج

محمد عبد الكريم النعيمي

محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة

[email protected]

لا يكاد يختلف اثنان على أن السلفية مصطلح فضفاض أكثر مما يجب، إذ إن كل التيارات الإسلامية السّنية تَدَّعي وَصْلاً بالسلف الصالح للأمة، أو في أقلِّ تقدير على السلف المشترَك والمتفق عليه، كالصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وأئمةِ الفقه والحديث الإسلامي، إلا أن العُرف اليوم تَواضَعَ على تسمية أتباع مدرسةٍ معينة من مدارس الفقه الإسلامي بالسلفية، هم أتباع مدرسة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، ومن ثم ضاق نطاق المصطلح ليُدَلَّل به على أتباع شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله، ليضيق في العصر الحاضر بشكل أكبر ويُحْصَرَ في عُرفِ الناس على أتباع مدرسة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقد كان لمنهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب في المناحي العقدية تأثيرٌ إيجابي على معظم الحركات الإصلاحية التي نشأت في أقطار العالم الإسلامي، والتي لا تُحْسَبُ بالضرورة على مدرسة الشيخ.

وفي ضوء الظروف التي فرضتها الأحداث العاصفة بالعالم الإسلامي، وتأثير الحركات الإسلامية الإصلاحية في الدول المجاورة، لم تلبث المدرسة السلفية أن شهدت تصدُّعاً بنيوياً حاداً.

فشهد المنهج السلفي - بالمعنى الاصطلاحي والعُرفي الضيق - بروز ثلاثة تيارات تتراوح اتجاهاتها التفاعلية "الحركية" بين الإرجاء والخروج - إذا صح استحضار المصطلحات المذهبية التاريخية - يبرز من بينها تيار معتدل الرؤية، إلا أن نشاطه الاجتماعي وتأثيره "الحركي" يكاد يكون معدوماً.

أولاً: السلفية الجهادية.

برز هذا التيار من قلب مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وذلك لظروف العالم الإسلامي السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، وبسبب ضعف الثقافة الفقهية في السياسة الشرعية لدى مدرسة الشيخ ابن عبد الوهاب، والقراءة القاصرة والسطحية لتراث مجددي الفقه الحركي في العصر الحديث، أمثال المفكر الشهيد سيد قطب والشيخ سعيد حوى والدكتور عبد الله عزام وغيرهم رحمهم الله، خاصة أن معظم أبناء هذا التيار (السلفي الجهادي) من الشباب الذين لم تُصْقل مداركهم بالعلوم الشرعية بشكل كاف، بالإضافة إلى التضييق الذي مورس عليهم في دول عديدة، كل هذه المعطيات أفرزت نموذجاً إقصائياً لا يؤمن إلا بالحل العنفي، ولا يتوانى عن تكفير الشعوب والحكومات، ولا يقبل حتى بالشريك الإسلامي فضلاً عن غيره، ويرى في منهجه الحقَّ المطلق الذي يجب أن يعتنقه الناسُ ولو بالإكراه، ضارباً عَرضَ الحائط بالتنوع الطائفي والمذهبي، ورافضاً أيَّ اجتهاداتٍ مخالفةٍ في المدرسة السلفية نفسِها.

ثانياً: السلفية الرسمية.

وهي تيار يناقض سابقه بشكل جذري، ويتطرف في الجهة المقابلة تماماً في ما يتعلق بعلاقة المحكوم بالحاكم، غاضاً الطرفَ عن كيفية وصول هذا الحاكم إلى السلطة، وكيفية حُكمِهِ للبلاد والعباد، شاهراً سيفَ التكفير والتبديع والتفسيق على كلِّ مطالبٍ بحق أو رافض لباطل.. بزعم محاربة الفتنة!! واضعاً ثنائية "الأمن والاستقرار" على رأس أولوياته، حتى لو كان هذا الأمن المزعوم قشرةً رقيقة على فُوَّهةِ بركان يَغلي من الظلم والفساد، وفي سبيل هذه المعادلة لا يتوانى هذا التيار عن منح الفتاوى المجانية للسلطات ودون طلب منها أحياناً لتبرير أخطائها وعثراتها وأحياناً جرائمها، كما لا يتوانى عن تكفير وتبديع وتفسيق كلِّ مَن خالفه في منهجه، وجَعْلِ العلماء المعتبرين في العالم الإسلامي والمخالفين لمنهجه مُضغةً في أفواه السفهاء والعامة.

ثالثاً: السلفية العِلمية.

هذا التيار يمثل الجوهر الحقيقي لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهي الدعوة التي قامت على أسس تصفية العقيدة من الشوائب الشركية وإفرادِ الله تعالى بالعبادة، دون أن تُعنَى بالفقه السياسي الشرعي طالما أن المناخ لا يقف حائلاً دون تبليغ الدعوة، مُغرقةً في التفاصيل الفقهية الدقيقة جداً لأحكام العبادات، وقد كان هذا التوجه مقبولاً في بداية الدعوة، إلا أنه أضرَّ لاحقاً بمنهج المدرسة، بعد أن توفرت المعطياتُ التي ذكرنا آنفاً في حديثنا عن السلفية الجهادية، فشكلت - تلك المعطيات - صدمةً عنيفة أدت إلى جنوح تيار منها إلى التطرف، في ظلِّ القصور المعرفي في فقه السياسة الشرعية، وكيفية إسقاط قواعدها الكلية العامة على المتغيرات الظرفية الحادثة.