شيء من عذابات المعتقلات

عابدة فضيل المؤيد العظم

عابدة فضيل المؤيد العظم

أليس في بيتك موزع صغير محصور بين الغرف لا فتحة له ولا شباك سوى مجموعة من الأبواب؟ أَغْلق الأبواب كلها وأطفئ الأنوار، واجلس هناك في الموزع ذاك وحدك بلا سجادة تفترشها ولا كتاب يؤنسك، ولا هاتف أو أي وسيلة من وسائل الاتصال مع العالم ولا أي وسيلة من وسائل التسلية، أو من وسائل الراحة كالتبريد أو التدفئة أو أريكة... اجلس فيها ساعتين في سكون الليل في العتمة، بل اجلس ساعة واحدة، بل نصف ساعة، واشرح لنا مشاعرك... تلك المشاعر المتضاربة المتفاوتة... التي يمتزج فيها البؤس والألم واليأس والقلق والترقب... قد تشعر بالاختناق وقد يصيبك الاكتئاب وقد تنهار... هذا شيء بسيط مما عانت منه مجموعة من المعتقلات في السجون السورية... فهل يعلم الناس بالتفاصيل الصغيرة ما الذي يحدث داخل السراديب والمعتقلات؟

 لقد يسر الله لي لقاء بعض المعتقلات وسمعت من كل واحدة معاناتها ورأيت دموعها، وشعرت برجفة صوتها وبالغصة العميقة التي لم تفارقها وهي تسرد قصتها... الفتاة الأولى كانت في الخامسة والعشرين، رفضت الإعلان عن اسمها على الملأ وتخفت خلف اسم مستعار، قالت لي أشياء كثيرة حزينة وصوتها يتهدج، وأنهت حديثها بأنها تأمل بأن تمسك جلادها بيديها وتضربه وتعذبه وتفعل به كل ما فعله بها، فقد أغلظ عليها بالقول والفعل والتعذيب والإهانة... وعقبت: إن "رجال الأمن" لا يمتلكون أية مشاعر إنسانية، ولا يعرفون ما هي الرحمة، هؤلاء ليسوا بشراً على الإطلاق، يأتون إلى البيت فجأة ويختارون وقت النوم والراحة، يحاصرون البناء ويدخلون الدار كالإعصار، يتكلمون بألفاظ بشعة ولهجة مقززة يفتشون البيت وقد يقلبونه ويفسدون متاعه ويهينون ساكنيه، ثم يسحبون البنت بكل وحشية إلى سياراتهم ويمضون إلى المجهول تاركين أمها تبتهل وأبوها يتضرع وأخوها يساوم... وإن أصعب شيء في المعتقلات التعذيب النفسي، يأخذونك فلا تعرف إلى أين؟ وتترقب حذراً .. كيف سيستدرجونك بالكلام وبأي الوسائل الوحشية سوف يستعينون عليك لتعترف؟

 وفي غرفة التحقيق يستفردون بالفتاة، كلهم أعداء ووحوش آدمية، وهي بين يديهم وحيدة ضعيفة، فيضربون البنت على وجهها ويصفعونها بقسوة، ويدفعونها بغلظة فتقع أرضاً، فيدعسون عليها، ويركلونها كما تركل الكرة، يرفسها كل داخل للغرفة وكل خارج، تخيلوا الصورة: فتاة نحيلة لا يزيد وزنها عن 49 كغ تتلقى ضربات من حذاء ضخم عسكري محصن ومقاسه لا يقل عن 43... ماذا ستفعل بجسمها تلك الركلات، وماذا ستفعل الجلافة بقلبها الصغير وبراءتها وجهلها بقسوة الحياة؟! وهل ستصمد تحت ثقل وزنهم حين يقفون فوق جسمها الناعم الطري ويضحكون ويضغطون بكل ثقلهم عليها (وأوزانهم قد تفوق المئة)؟!

قالت لي: وكنت أضع جهاز تقويم على أسناني ومع كل كف يضربون به وجهي تخرج نافورات من الدم من مناطق مختلفة من لثتي وتكثر الجراح في فهمي وتلتهب، ولا يكترثون بل يزيدون في عذابي ويتحسسون جروحي ويتقصدون المكان الحساس المؤلم ليتابعوا الضرب عليه، لم أكن أرتضي البكاء وأراه ضعفاً ولكني بكيت، وبكيت كثيراً... عذبوني وضربوني بأسلاك الكهرباء حتى ما عدت أستطيع الوقوف على رجلي، وإن آثار التعذيب تبقى وتتجدد في سجونهم كل يوم، ومازالت باقية على ساقي فلما أرادوا الإفراج عني (بعد أشهر من الاعتقال) وجدوني عاجزة لا أستطيع الوقوف على قدمي من الألم والجراح والإعياء فتركوني مدة إضافية حتى استطعت المشي بصعوبة وبعرجة واضحة.

وهكذا تمضي الليالي في السجون ثقيلة وبطيئة وقميئة: "الثانية" دقيقة، و"الدقيقة" ساعة و"اليوم" سنة بحالها... أيام السجن محملة بالقهر والعذابات، وأكثر ما آلم تلك الصبية وحطم نفسيتها في سجنها "صفقة المبادلة" التي تمت بين الثوار وبين النظام، إذ آلمها أنهم اختاروا 300 معتقل وما كانت من بينهم (وهو عدد كبير نسبياً) فشعرت بالغبن والقهر وفقدت صوابها وإحساسها بالمكان والزمان... صرخت بأعلى صوتها، سَبَّت الرئيس وسَبَّت الثوار. ثم سقطت على الأرض، وأصبيت بانهيار عصبي، أخذوها للمشفى وأعطوها إبرة نامت من تأثيرها نصف ساعة، ثم عادت للصراخ وتدهورت حالتها ودخلت المشفى عدة مرات وقضت فيه عدة أيام.

وقابلت المزيد من الفتيات وكلهن رفضن الإفصاح عن أسمائهن رغم إقامتهن خارج سوريا، كلهن خائفات! ألهذه الدرجة وصل تأثير النظام؟! وامتد لآلاف الكيلو مترات خارج حدود الوطن؟

أكثرهن في العشرين، صغيرات وغير متزوجات ولا يعرفن شيئاً من الدنيا بعد، بدأت كل واحدة منهن حياتها الواعدة وأحلامها الوردية في سجون الإرهاب. وعلمت منهن أن مئات البنات جربن "المنفردة" في السجون الأسدية، غرفة طولها متر وعرضها نصف متر وبابها ثخين سميك كالجدار، ما لها إلا طاقة صغيرة في السقف، والطاقة هي وسيلة الاتصال الوحيدة بين الفتاة وبين جلادها، يرمون البنت في تلك الغرفة ويقفلون الباب ويرحلون، وما أدراك ماصوت القفل وما الذي يصنعه في النفوس من تأثير ومن مشاعر سلبية مخيفة؟!

وتجلس الفتاة وحدها خلف الباب الموصد، تحاول معرفة الليل من النهار، والصيف من الشتاء، تقف على رؤوس أصابعها لعلها تشعر بنسمة المساء في الصيف أو بدفء الشمس في الليالي الباردة ليس في الغرفة إلا بطانية شتوية تنام عليها فكأنها تنام على الأرض الجرداء، لا تستطيع مد رجليها -في غرفة طولها متر- فتتكور على نفسها حتى يبس جسمها ونحل عودها.

وتنام المعتقلة على الأرض بالمنفردة أياماً وليالي طويلة، وتعاني من مشاعر قاسية تشعر بأن العالم تخلى عنها وتابع حياته ونسيها. هي وحدها مع الحشرات، والباب مقفل ويصاحبها أحياناً جرذ أو أكثر يتجول هنا أو هناك، والصراصير تستوطن المكان وكم أيقظتها وهي تمشي على وجهها أو يديها.

وللنساء ظروف معينة وحاجات خاصة تكرر كل شهر، والبنت تستحي وتخفي وضعها هذا عن أبيها وأخيها فلما دخلت السجن اضطرت لطلب حاجتها من سجانها، وكم شعرت بالظلم والقهر أن يطلع رجل مجرم غريب على أسرارها ويعرف أخص خصوصياتها وقد حرصت كل الحرص على إخفاء ذلك الأمر عن أقرب الناس إليها. الأمر الذي زاد عذابها وحنقها على سجانيها.

الوضع فظيع داخل السجون والأمراض منتشرة فيه بكثرة، بما فيها الأمراض القديمة التي انقرضت، لقد رجعت الأمراض وغزت المعتقلات والسجون فتصاب واحدة من كل عشرين معتقلة بمرض مزمن عضال... أمراض حاربها العالم لعقود فذهبت وبادت واستطاع النظام الأسدي استحضارها من جديد، باستنبات جراثيمها في أقبيته العفنة (مثل السل والطاعون). ولقد ظهرت في المعتقلات أمراض جديدة وحساسية من نوع غريب، فسقط شعر إحداهما حتى صلعت، ولازمت الأخرى حكة جلدية واحمرار لم يفارقها حتى اليوم وقد غادرت السجن من شهور.

هذا بعض ما سمعت، وأكتفي به كيلا أطيل عليكم، وأختم بتذكرة صغيرة:

أيها القارئ الكريم تنتظر أنت ساعة عند طبيب الأسنان أو دقيقتين عند إشارة المرور فتتضجر وتشعر بوقتك يهدر ويضيع بالانتظار، ويعلق بك المصعد بين طابقين فتثور وتدق الباب وتنادي النجدة وتشعر بالاختناق.. فماذا تقول السجينات وهن حبيسات في مساحة تساوي مساحة مصعد صغير لا يكاد يتسع لخمسة أشخاص، وفي ظروف سيئة ومكان وسخ ليس فيه أي شيء من مقومات الحياة وفوقها فيه الذل والضرب والإهانة والتعذيب وتوريث الأمراض النفسية والجسمية؟

ويؤلمك فكك فلا تنام الليل حتى إذا أصبح الصباح كنت في عيادة الطبيب، أو تغدو من ليلتك إلى الطوارئ، فكيف بمن كانت آمنة في بيتها معافاة في بدنها فتسببوا لها بالعاهات والأمراض والآلام المبرحة والقروح والكسور... وعن سابق عمد وإصرار؟

عابدة المؤيد العظم

..........

الجهاد في القرن الواحد والعشرين

 

كيف يمكنني المساهمة في الثورة السورية المباركة؟

سؤال يسأله عامة الناس من المخلصين والشرفاء وسؤالهم ذكرني بسؤال قديم شغل الصحابة: "ما أفضل الأعمال الصالحة؟"، وسألوه للنبي صلى الله عليه وسلم مرات عديدة عنها فجاءتهم إجابات مختلفة: "الصلاة على وقتها"، "الحج"، "بر الوالدين"، "الجهاد"... ووفق الفقهاء بين هذه الإجابات المختلفة بقولهم: "يختلف أفضل الأعمال باختلاف الزمان والمكان، ولكل زمن ولكل مكان عمله الأفضل"، ولا شك أن أفضل الأعمال في زماننا هو الجهاد في سبيل الله.

لقد أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم سوري داخل البلاد وخارجها، وأضحت المعركة معركة كفر وإيمان ومعركة بقاء وفناء، ومعركة الحق والباطل، ولا بد للجميع من المشاركة فيها.

*  *  *

وإذا كان الجهاد "أفضل الأعمال" و"فرض عين"، فكيف يكون؟ وما دور كل فرد سوري فيه؟

والجواب:

ذكر الله في القرآن نوعين من الجهاد، الجهاد بالمال والجهاد بالنفس، وهما قائمان إلى يوم القيامة، على أن الدنيا تغيرت فتطور الجهاد معها ونشأت له إضافات وذيول وأشكال جديدة:

1- الجهاد بالنفس: وهو حمل السلاح والقتال في سبيل الله دفاعاً عن الأرض والحرمات، ويكون داخل سوريا وخارجها؛ وأما الجهاد في الخارج فهو بالعزم عليه والإعداد له باحتراف وجدية والاستعداد لدخول البلد والمشاركة الفعلية في ميدان القتال. وأما الجهاد في الداخل، فهو بالقتال ومواجهة العدو، وحمل السلاح والمشاركة المباشرة في المعركة، أو بالدعم بالصفوف الخلفية، أو بإعداد السلاح وتنظيفه وتهيئته وتخبئته، أو بإعداد الخطط للسيطرة عليه من العدو وحيازته، ونقل المصابين وحراسة الجنود الجرحى والعمل بالتنسيقيات، وتوفير خطوط الاتصال، والتصوير في ساحة المعركة... ويدخل تحت الجهاد بالنفس: كل عمل يكلف الفرد حياته ويخدم المعركة الفاصلة خدمة حقيقية لا يمكن الاستغناء عنها.

2- الجهاد بالمال: وكان المسلم يخرج مالاً من كيسه ويجهز الجيش (كما فعل أبو بكر وعمر والصحابة والتابعون) وتنتهي القضية، وقد يحتاج الجيش إلى مدد فيجهزون جيشاً آخر ويرسلون التعزيزات.

أما اليوم فتغيرت طبيعة الحروب والأسلحة، وزادت الضرورات وتنوعت، فما عاد الجهاد محصوراً بتجهيز الجيش بل نشأت حاجات وحاجات وكلها ضرورية، ولا تكاد الحاجات هذه تنتهي فهي دورية تتكرر كل شهر وكل أسبوع وأحياناً كل يوم، حتى خصص بعض المحسنين جزءاً شهرياً من دخولهم لدعم الثوار وتأمين طعامهم وشرابهم ونفقات تنقلهم واتصالاتهم بالهواتف والأجهزة الأخرى، وأصبح السلاح يحتاج لذخائر وصيانة، وصار التخطيط يحتاج لمصاريف وخبراء وكاميرات وإعلاميين... وكم نحتاج للمزيد من الأفكار التي تجلب الأموال!

ونشأ باب جديد للجهاد بالمال: هو دعم المدنيين والفقراء والمساكين والعاملين والمهجرين والمصابين والمعاقين وتأمين حاجاتهم كلها، وإجلاؤهم عن المناطق المنكوبة... وتأمين أعمال تكسبية لهم ومشاريع صغيرة منتجة، تُذهب عنهم الاكتئاب وتفيد الأمة، مثل مشاغل الخياطة والتطريز، والأعمال الفنية والرسم.

وصرنا بحاجة ملحة إلى وسطاء يربطون بين أهل الخير والمجاهدين، والمتبرعون كثيرون ولا يعدم الخير في الأمة، ولكنهم لا يعرفون الباب الذي تصل منه الأموال ومن دل عليه وعمل فيه كان له أجر كبير.

واشتدت الحاجة لأي مال ولو كان المال متحولاً مثل البطانيات والملابس والمواعين والأدوية والسكن، أو أي شيء مفيد. وإن الحاجة للأموال لا تنتهي فنشأت فكرة الحفلات والبازارات... ومن أجمل الأفكار استثمار الأموال في المشروعات التجارية، وإعادة تدويرها، لكي لا تنفد. ومنه نشأت فكرة المطابخ التي تقيمها السيدات في البيوت وتنذر ريعها للثورة.

وللجهاد أنواع أخرى حديثة سأذكرها في مرة قادمة إن شاء الله، وأختم مقالي هذا بقولي:

أيها الناس

أسباب النصر رجال ومال وسلاح، فما الذي ينقصنا منها؟ لا ينقصنا العَدَدْ، إنما تنقصنا العُدَدْ العسكرية، ولدينا العلم والذكاء الإيمان، وإذا أخذنا بها غلبناهم.

ومن أعجب العجب أنهم ما استطاعوا أن يغلبونا رغم ما أعانوهم به علينا وما أمدوهم به من المال والسلاح والناس (من الغرب من أميركا وحلفائها وإيران وروسيا)، وما زال جيشنا الحر يسطر البطولات ويتقدم في البلاد، ونسأل الله النصر المؤزر القريب.