متى كانت الحرب عقلانية ؟

31 ذخائر الفكر الإنساني

د. خالص جلبي

[email protected]

في شهر أغسطس آب من عام 1939 م سافر الفيزيائي الألماني ( فيرنر هايزنبرغ ) الى أمريكا ليلتقي بصديقه ( انريكو فيرمي ) . الأول فيزيائي فيلسوف ، طوَّر مع زميله البريطاني ( بول ديراك ) ميكانيكا الكم ، وانفرد بتأسيس مبدأ فلسفي فيزيائي بتدشين مبدأ الارتياب أو اللايقين في حركة الالكترون . فيرمي يعتبر أول من بنى مفاعل نووي في تاريخ العلم عام 1942 م ، عندما هتف لروزفلت ( رسى الملاح الإيطالي على الأرض الجديدة ) .

 كان سفر هايزنبرغ لسبب غريب ، وحديثه مع فيرمي أدعى للعجب ، سجَّله في كتاب فيزيائي وليس سياسي ( الكل والجزء ـ محاورات في الفيزياء الذرية ) .

 وصف هايزنبرغ شعوره على النحو التالي : كيف يتصرف الانسان في العاصفة ؟ أول شيء إيجاد مكان آمن لعائلتي ، في جبال بافاريا ، عندما تنهدم المدن الألمانية بقنابل الحرب ، والشيء الثاني توديع أصدقائي الذين أحب ، فقد لانجتمع وتطوينا لجة الموت ! يعقب فيرمي متساءلاً ؟ الحرب قادمة إذاً ؟ يجيب : إنها سحب قاتمة أراها قادمة عبر الأفق ، والذين يعلمون مشفقون منها ويعلمون أنها الحق .

 يسأل فيرمي : أتوقع أن تبقى في أمريكا فهي فرصتك للنجاة ؟ يجيب هايزنبرغ : سأعود لاعتبارين : بناء جيل جديد من الشباب الألمان العلماء بعد أن تضع الحرب أوزارها ، ثم إن الانسان وفي سن محددة ، ينشأ أفضل مايكون في حوض ثقافي بعينه ، شكل قدره ، يكون أعظم مايؤثر فيه أو يتأثر منه ، وقد تجاوزت هذه السن ، لربما كان علي أن أغادر ألمانيا قبل عشر سنوات ، لقد تأخر الوقت كثيراً الآن . يسأل فيرمي : طالما كانت الحرب واقعة ، هل تعتقد أن النازي سينتصر فيها ؟ يجيب هايزنبرغ بهدوء : سيهزم الألمان بسبب بسيط ، أن الحرب تدار اليوم بالتكنولوجيا ، وألمانيا ليس لها طاقة الحلفاء تكنولوجياً ؟ ثم يعقب يختم حديثه قبل الانصراف : وهتلر يعلم هذه الحقيقة ... ولكن ياصديقي انريكو متى كانت الحرب عقلانية ؟

 الحرب تقوم على إيذاء أو أفناء الآخر ، ومع هذا فالانسان يمارسها ، والحرب تقوم على تحطيم إرادة الآخر ، حسب مقولة منظر الحرب الضابط الألماني ( كلاوسفيتز ) : ( أنها استمرار للسياسة بوسائل جديدة ، تهدف في النهاية الى تطويع إرادة الخصم لإرادتنا ) ولكنها تبرمج لجولة جديدة من الصراع ، هي أشد هولاً وأعظم نكراً ، ومع ذلك يتدافع البشر الى مذبحها كالمسحورين . والحرب تقوم على إلغاء المباردة البشرية ، والاستقلال الفردي ، وكل ضروب الوعي والحرية والارادة ، محولة قطيع الأفراد ، تحت هلوسة جماعية ، الى كتلة لحمية منضدة ، على شكل مطرقة ، جاهزة للهرس والسحق ، تعمل بقوانين الفيزياء ، استلب منها آخر شعاع من العقل ، تطيع بدون تفكير ، وتقتل بدون تردد ، من تعرف ولاتعرف ، إطاعة للأوامر ، تحت مقولة ( نفذ ثم اعترض ) .

 أنا أعمل في الجراحة منذ مايزيد عن ربع قرن ، ندخل قاعات العمليات أحياناً ، لاصلاح عطب في البدن ، في ظلمات الليل ، من إصابة طائشة ، اخترقت شرياناً هاماً ، على موعد مع عملية ، في دماء هي حتى الصباح ؟

 الحرب ليست عملاً عفوياً طائشاً لاإرادياً ، بل يدخلها الانسان بكامل وعيه ، يخطط لها ويبرمج ، يستعد لها وينفق ، ثم يدخلها فيمارس القتل ، في صورة جنون ، يمارسها بشر خارج المصحات العقلية .

 طوَّر ( فرتز هابر ) الكيميائي الألماني في ظروف الحرب العالمية الأولى ثلاث أفكار : استخراج البروتين من نشادر الهواء ، وأملاح الذهب من ماء البحر ، ولكن أهمها كانت صناعة الغازات السامة ؛ فهو أبوها . وخرج بنفسه يراقب تطبيقها الميداني ، في سحب الموت الصفراء من الكلور وغاز الخردل ، تزحف فوق خنادق الجنود ، الى حلوقهم فيختنقون ، وعيونهم فيعمون ، وأعصابهم فيشلون .

 في نفس الفترة خرجت داعية سلام مميزة هي ( بيرتا فون سوتنر ) فمُنعت من الخطابة ، وفي بيتها حجرت ، وحصل ماتوقعت ؛ فجنرالات الحرب الذين توقعوا للحرب أن تنتهي في خمسة أسابيع على أبعد تقدير ، استمرت خمس سنوات ، ملأت قبور الأرض بملايين الشباب ، وفي معركة السوم فقط ، خلال ستة أشهر ، مات ( 1250000 ) مليون ومائتين وخمسين ألفاً بين بريطاني وفرنسي وألماني ، حصدت الرشاشات الألمانية في أحدى الوجبات الدسمة ، في مدى 12 ساعة ، 56 ألفاً من خيرة أبناء بريطانيا ، انتقاهم الجنرال ( كيتشنر ) على عينه ، ولم يكونوا من أبناء المستعمرات .

 خنادق الحرب العالمية الأولى عام 1916 م كررها الايرانيون والعراقيون ، بعد سبعين سنة ، في معارك كربلاء والقادسية ، في ثماني سنوات عجاف ، دامت أطول من الحرب العالمية الثانية ، بكلفة فاقت 400 مليار دولار ، وبقرابين بشرية وصلت المليون .

 منذ مطلع التاريخ نشبت الحرب كخطأ كرموسومي في تركيب الحضارة ، كما نشأ نظام العبودية ، كإفراز جانبي من مرض الحرب ، وتمت السيطرة الذكورية في توجيه المجتمع ، واعتُمدت الثكنة لتدريب الذكور ، أن يموتوا في ساحات القتال ، وعسَّكر المجتمع في كل شيء ، في إفراز صور لاتنتهي من العنف ، وتغليف المجتمع بثقافة القسوة ، وتمجيد ثقافة البطولة والفتوحات .

 قفزت الحياة الانسانية بعد الثورة الزراعية ، من فوضى الغابة ، الى بناء مؤسسة الدولة كخيار أفضل ، فمعها أُطعم الانسان من جوع ، وآمن من خوف .

 الدولة تحتكر العنف لنفسها ، مقابل منح الأفراد الأمن داخلها ، ولكن دخول الانسان مرحلة الدولة كانت ورطة كبيرة ؛ فمع ولادة الدولة تولد تلقائياً مرضان خطيران : برمجة الحرب مع مربعات الدول الأخرى ، وممارسة الطغيان والتأله الداخلي . الحرب هي الظاهرة المرافقة لولادة الدول ، فهي الصراع المسلح بين الدول ، وحين تفكك الدول . والطغيان الداخلي يفسر لنا جانباً ، من رسالة الانبياء عليهم السلام ، وحركتهم في التاريخ ، لتحديد جرعة عنف الدولة ، في إطار توفير الأمن للأفراد ، بدون وثنية الانظمة ، وتأليه الاشخاص وولادة العائلات الاقطاعية المسلحة . دعوة الانبياء تمحورت حول استخدام آلية الحوار للاقناع بالدخول الى الضمير ، مقابل دعوة الطغاة الى استخدام آلة الحرب للاكراه .

 كانت الحرب فيما مضى تؤدي دورها كمؤسسة ، الى ان أصبحت كائناً خرافياً ، كما لو رأينا انساناً ، بطول 200 متر ، ووزن 400 طن ، يدب في احد أزقة المدينة ، مثل قصص جوليفر ؟

 إن مؤسسة الحرب ماتت ، على الرغم من اختلاجات نزعها الأخير في مناطق المتخلفين في العالم ، كما يحدث لأي عضو يضمر عندما لايمارس وظيفته ، ومناظرها أصبحت مقززة تدعو للغثيان ، أكثر من التصفيق والحماس وزغردة النساء ، وتصعد اليوم أمم بدون أي سلاح وحروب تحرير ، كما في اليابان وألمانيا ، وتنهار أمم تملك كل السلاح بدون أي هجوم خارجي ، مثل الاتحاد السوفيتي ، ولكن عالم الكبار يريدنا أن نبقى لأطول فترة ، مخدرين تحت أثر سحر ملك الجان.