الإصلاح.. بين القوامة والإمامة
د. فتحي يكن
يقول الله تعالى في وصف عباد الرحمن، وهو أصدق القائلين: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً(74)" (الفرقان). لكم تحمل هذه الآية الكريمة من المعاني الدالة الداعية إلى التزام أولويات الإصلاح والتغيير.. فالإصلاح عنوان عريض لسنة التغيير الإلهية "ولن تجد لسنة الله تبديلا(23)" (الفتح)، اختصرها القرآن الكريم بقوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد:11).
الإصلاح في الإسلام منهج تغييري شامل الجوانب، متكامل الحلقات، متعاقب الخطوات، محدد المراحل، لا تتحقق جدواه بعيداً عن هذه الاعتبارات جميعاً.
وعندما يعتري المشروع الإسلامي تعثر أو فشل وإخفاق، يكون السبب: اختلال هذه المعايير، واهتزاز تلكم الاعتبارات، وعدم ملاحظة الأولويات في سنة التغيير.
وبالعودة إلى الآية، نجدنا حيال خطوتين أساسيتين لا مناص منهما في عملية الإصلاح والتغيير: الأولى تتصل بإصلاح وتغيير النفس والأقربين، والثانية تتعلق بمهمة إصلاح المجتمع والآخرين.
البدء بقوامة الإصلاح: من خلال السياق القرآني يتأكد أنه: لا مناص من أن يكون البدء بقوامة الإصلاح في الأسرة والجماعة والمحيط الضيق، ليتحقق من خلال ذلك نشوء ذرية صالحة تقر العيون، وتثلج الصدور، وهو ما يجليه الشطر الأول من الآية: "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين" (الفرقان: 74)، لتليها بعد ذلك خطوة أكبر وأعم وأشمل، ترتقي فيها مسؤولية التغيير من دائرة القوامة، إلى دائرة الإمامة، تتجلى في قوله تعالى: "واجعلنا للمتقين إماماً(74)" (الفرقان).
إن شرط الاضطلاع بإمامة المتقين والصالحين، هو تحقق الصلاح والتقوى فيمن يتقدم لذلك، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وإلى ذلك كانت إشارة الخطاب القرآني: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون(44)" (البقرة: 44)، والنجاح في إصلاح الشأن الخاص ابتداءً، وإلا كانت الخطوة متعثرة وغير قابلة للنجاح.
هل يكون جديراً بتولي إمامة وإصلاح الآخرين، من فشل في قوامة وإصلاح الأقربين؟.
إن القفز فوق الأولويات والاعتبارات الشرعية في الإصلاح، من شأنه أن يحبط المشروع الإسلامي، ويعطل عملية التغيير، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات.
على هذا سار الأولون، فحققوا النجاحات والانتصارات، وتقلدوا إمامة العالم وقيادته.
كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يجمع أهله ويقول لهم: "إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم. فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أولي رجلاً منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني، فمن شاء منكم فليتقدم ومن شاء فليتأخر" (ابن الجوزي: 206).
ومن أروع ما قاله الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب في هذا المعنى قوله: "من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم".