في زمن يضجّ بالشّرّ تعالوا نتكلّم عن المحبّة
في زمن يضجّ بالشّرّ تعالوا نتكلّم عن المحبّة
مادونا عسكر
أصوات الشّرّ تعلو في كلّ مكان متعطّشة للمزيد من الحقد والكراهية، ويستعر ظمؤها لرائحة الدّم المتناثر من أكف الإنسانية الّتي تقف على حافة العالم، تئنّ وتحتضر وتنتظر المجهول. أصوات تدّعي انتفاضة الحقّ على الباطل، والرحمة على الظّلم، والحرّيّة على العبوديّة، وتعتلي المنابر وتحتلّ الساحات ولا نسمع منها إلّا التّحريض على القتل والقتل والقتل...
هي أصوات خرجت من قبور نتنة لا تفهم معنى شروق الشّمس، ولا يبلغها خرير الماء العذب ولا تفقه اخضرار شجرة يدوم آلاف السنين. تشرب من مياه المستنقعات وترعى العشب اليابس في سفوح الجبال، ثمّ تجول في أقطار الأرض باحثة عن منفى تنام فيه حتّى يأتي مسخ ذليل يوقظها من جديد لتهبّ كما الإعصار محاولة القضاء على كلّ جمال. هي أصوات أبناء الظّلمة الآتين إلينا متشبّهين بملائكة النّور، يطلقون العنان لتقواهم الزّائفة وحرصهم الرّديء على الإنسانية، ويحاربون الحبّ والحقّ بسلاح أسيادهم.
وأمّا نحن وإن كنّا محاطين بالظلمة من كل صوب، ونصارع أمواج بحر لم نختر الغوص فيه، فإنّنا أبناء النّور والمحبّة. ننطلق بخطوات ثابتة حاملين قلوبنا المنفتحة وعقولنا المستنيرة نبشّر بالحبّ ونرفع الإنسانيّة إلى حيث يليق بها أن تكون وحيث يحسن أن تعلّق نجمة على صدر السّماء. كالزّهر ننبت من الصّخور ونسير بين الأشواك، سراجنا ضمائر حيّة ونورنا كلمة الحبّ المطلق، نحو الجلجلة العظيمة فنرتفع فوق العالم لننثر عليه ورود المحبّة ونمدّ أيدينا لمساكين يتسكّعون على ضفاف الموت وينازعون في ساحات الهلاك وننتشلهم ونضمهم برحمة المحبّة.
نحن أبناء المحبّة العظيمة الّتي تتحدّى الشّرّ بالصّمت الحكيم، وتثور عليه بالوداعة، لا نخاف الموت لأنّه ولادة الحياة، ولا نرتعد ممّن يقتل الجسد فهو لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك، ولا نخشى الألم لأنّه قوت السعادة. نحيا في عالم الشّقاء هذا، بصوم عن الأنا لنفطر على محبّة الآخر، فنقتل فينا كلّ أنانيّة وكلّ بغض ليحيا الإنسان فينا. لا تتحكّم فينا غرائز التّفرقة ولا تؤثّر في نفوسنا جهالة الكراهية، بل نحن سائرون قدماً نحو اكتمال الإنسانيّة، باحثين في كلّ زاوية من هذا العالم عن الخير والحقّ والجمال.
قد نكون من القلائل إلّا أنّ ظلمة حالكة دامسة، لا تحتاج إلّا لضياء شمعة حتّى تتلاشى وتندثر، ولا يعوز ليل حالك السّواد إلّا بريق نجمة حتّى يتدارك أنّ الصّباح مشرق لا محالة.
في هذا الزّمن الّذي يضجّ بالشّرّ، ويتلوّن بأبشع ألوان الإجرام والحقد والكراهية، نحن بأمسّ الحاجة لثورة المحبّة الّتي تبدّل وجه الأرض، وتغيّر مسار التّاريخ وتخطّ بقوّتها سفر الحياة الإنسانيّة. فثوروا على كلّ ما يحيط بكم من علامات الشّرّ، من أنانيّة ونفاق وتملّق وعنصريّة، وانبذوا كلّ عبوديّة ترزح بكم إلى قعر الإنسانيّة، وأنيروا عقولكم بحكمة المحبّة وشرّعوا قلوبكم لها. واعلموا أنّ درب المحبّة لا يخلو من الصّعاب والألم، وإنّما دربها طريق أبلغ كمالاً.
المحبّة سلاح غالب أبداً، ينمو بذاته ويتغذّى من ذاته. يحمله الأقوياء ليوقظوا الحياة في نفوس جائعة للقوت الإنسانيّ. وأمّا الضّعفاء فسلاحهم أقوى منهم يقتلون به ويُقتلون. هي الثّورة الّتي يتجلّى ربيعها لوحات حضاريّة يفخر راسموها بأنّهم أتوا إلى هذا العالم وعاشوا فيه دون أن تلوّث نفوسهم أيادي الشّرّ. وهي الّتي خطّ فيها بولس الرّسول نشيده العظيم إذ قال: " المحبة تصبر وترفق، المحبة لا تعرف الحسد ولا التفاخر ولا الكبرياء. المحبة لا تسيء التصرف، ولا تطلب منفعتها، ولا تحتد ولا تظن السوء . المحبة لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق. المحبة تصفح عن كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبدا."