لا بد للعقل أن ينتصر!
م. شاهر أحمد نصر
الشعور الطاغي أن كل كلام حول المأساة التي نعيشها أجوف. أحداث يعجز عقل أي كاتب عن تصورها، وتصديقها. أحداث سيبقى التاريخ يدرسها أجيالاً، وأجيالا، ولن تفي عشرات المجلدات لاستيعاب دروسها. أحداث تجعل التاريخ يتقيأ الكثيرين بؤساً، وشناعة.
ويبقى السؤال اللغز: أحقاً يحدث هذا في سوريا؛ بلد الأبجدية الأولى، والحضارة، والعقول النيرة؟! وأين هذه العقول؟! ولماذا لا تستطيع وضع حد لهذه المأساة العبثية اللامعقولة؟
أحقاً أنّ سورياً يطأ رأس سوري بحذائه؟! أحقاً يتباهي سوري بنشر مقاطع فيديو على جهاز الموبايل تتضمن صوراً يعجز عقل عن وصفها كتابة، أو بأي أسلوب آخر؟! أحقاً أن هذه الصور التي نراها على شاشات التلفزيون، وفي شبكة الانترنت تحصل في سوريا؟!
لا، لا هذا غير معقول، ولا يمكن أن يصدق حصوله: يقول العقل؟!
أنحن نعيش حالة جديدة لكتابة لوحات ميثولجية جديدة في أرض الميثولوجيا؟!
وهل هذه الميثولجيا، كما سابقاتها، واقع أم خيال؟! أجيبينا يا عشتار!
ولكن الواقع يفند تهيؤ العقل؟!
أين تربى هؤلاء! أين دور المنظمات، والأحزاب التي مروا بمدارسها صغاراً؟!
تستدعي كل لوحة مأساوية تصدمنا ليس فقط إدانة فاعلها، وإنما البحث، أيضاً في المقدمات والأسباب التي أوصلته إلى فعلته؛ فوراء كل فعل، وفاعل مشوه تكمن بنية حاضنة، ومهيجة لهما، لا بد من معالجتها.
ها هي قوى كثيرة رسمية، وغير رسمية، تنافح يومياً عن السيادة الوطنية، وتتباهي، في الوقت نفسه، بوجود جنود غير سوريين على أرض سوريا... وكأن لسان حال كثير من المثقفين يدافع عن احتلال بلادهم...
يجهد البعض لتبرير هذه المواقف، والأحداث المأساوية، كما يربطها آخرون بطائفة، أو عرق، أو قومية... ولكن دروس التاريخ تعلمنا غير ذلك؛ فلقد عانت منها مختلف الدول والشعوب في مختلف القارات، وفي مختلف مراحل تطور البشرية، وليس من قبل طائفة، أو عرق، أو قومية واحدة محددة... ومن الضروري البحث عن أسبابها لمعالجتها؛ ليس في الأمراض الطائفية وحدها، ـ التي لا بد من معالجتها وتجاوزها ـ بل وفي أبعادها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية أيضاً... وهنا تكمن أهمية الفكر والمفكرين في البحث عن جذور المأساة وابتداع الحلول لها، إنما تزداد المأساة هولاً، عندما يبتر صوت المفكرين، ويلغى صوت العقل...
لقد أنجبت سوريا مفكرين كثيرين... وانتقد مفكرون أكاديميون منهم البنية السياسية السائدة، وطالبوا بإصلاحها، وتغييرها، وحذروا مراراً من وصول الوطن إلى هذه المأساة الكارثية، إنما صوتهم لم يسمع، ولا يسمع حتى الآن؛ فلماذا؟! وتزداد التساؤلات حدة وإلحاحاً... لماذا، على سبيل المثال، لا يتمعن مؤيدو البنية السياسية التي أوصلت البلاد إلى هذه المأساة، في آراء الآخرين، وخاصة مفكري سوريا الأكاديميين، وغيرهم؟! ألا يتساءلون: لماذا تتعارض آراؤهم مع آراء مفكري البلاد؟!
لماذا لم نفلح في حماية الوطن من المجهول؟! وأين يكمن الخطأ؟!
لا شك أن أموراً كثيرة تلعب دوراً في ذلك، وفي صياغة التفكير المشوه؛ من بينها، كما ذكرنا، البنية السياسية الاجتماعية التي تجاوزها الزمن، والتي أصبح تغييرها ضرورة وطنية وإنسانية، والصراع الإقليمي والدولي على بلادنا، فضلاً عن المصالح الذاتية، ودرجات الوعي، ودرجة الإحساس الإنساني، ومنهج التفكير!
كم نحن في حاجة، مع تغيير البنية التي أوصلت البلاد إلى هذا الدرك، إلى امتلاك منهج تفكير سليم، يبتعد عن التعصب الفئوي، والحزبي، والطائفي والمذهبي... يعتمد العقل النقدي الجريء بعيداً عن المحاباة والتملق لأي فعل، أو طرف يسيء للوطن ولحقوق أبنائه...
ولعل التجربة الإنسانية تعطينا بعض الأمل والتفاؤل، إذ تؤكد هذه التجربة، كما يؤكد الإحساس السليم، أنّه مهما تمدد، وتمادى الظلام؛ لا بد للعقل أن ينتصر!
أجل، إن أصحاب العقل هم المنتصرون؛ لأن العقل لا بد أن ينتصر!
إنما لكي ينتصر العقل يحتاج إلى منهج سليم؛ وتضافر جهود العقلاء؛ فكيف تتلاقى جهود العقلاء، لتجاوز بنية وحالة الظلام، والتأسيس لبناء المنهج السليم في الحياة، والتفكير؟!