مخاطر تهدد السوريين ونداء للعلماء الشاميين
المنصور
إن من أخص خصائص الإنسان التي ميّزه الله بها عن سائر الحيوان تفكره في عواقب الأمور ومآلاتها أي استشراف المستقبل والتبؤ بنتائج الحوادث والاحتياط لها تمحلا واستعدادا ، كنت وقُبيل تأسيس المجلس الوطني قد دعوت إلى تأسيس مجلس شرعي يواكب الوطني ويهيمن عليه مراقبا ومستحثا ويعمل هذا المجلس الشرعي على تقديم الفتيا في الملمات والمستجدات للثوار يعظهم ويذكرهم ، كما يعمل على تحريك الشارع العربي وتغيير مواقف بعض الحكومات الإسلامية ولكن للأسف لم يكن علماؤنا من المسؤولية والتفطن لحقيقة المحنة على قدر الثورة ونوازلها ومطالبها ولم يأووا إلى ركن رشيد
كثير من اهتم بما بعد انتصار الثورة حتى أقام بعضهم منذ عام مؤتمرا لإعادة بناء حمص ودرس آخرون المرحلة الانتقالية ومتطلباتها ولم يولي أحد عنايته إلى الإنسان في حد ذاته إلا من خلال شعارات ومبادئ ومن المعلوم أن القِيَم لا تلقى قبولا ما لم تكن النفوس مهيئة لها في أعماقها لقبولها على ركيزة من علم وترسيخ سلوك ومنهج على مر سنين ، وإن من أخطر ما يهدد مجتمعنا اليوم وغدا هو تلك النقلة السحيقة والسريعة من عالم الكبت إلى عالم الحرية من السكوت والخضوع إلى التعبير والقدرة على التغيير من الظلمة إلى النور الذي يبهر حديثي العهد به ، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق" فالدين علم فكما لا يكون الطبيب طبيبا بسرعة التحصيل وإنما بالممارسة والعمل الطويل فكذلك العالم لا يكون حتى تشذّبه المعضلات ويتردد في فكره المختلفات وتنحته على مر الأيام الفتيا والحادثات المستجدات ، أما العالم القدوة والمرجع والعمدة فذاك الذي قال النبي فيه "الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيهم راحلة" فهذا جمع العلم بالجد والتشمير وموهبة العقل الراجح وفوق كل شيء حاز الصدق والإخلاص برؤية الآيات
بعث الأستاذ بدر الدين الحامد أخاه شيخنا العلامة محمد الحامد رحمه الله إلى تعلم الشريعة في الخسروية في حلب وأوصاه قائلا: تعلم وأعوذ بالله من نصف عالم ... إي وربي فإن نصف العالم أضر من ألف جاهل كما يضر المتطبب والطبيب الناقص الغير حاذق بالناس ويسوقهم إلى المهلكات ويغرر بهم فكذلك نصف العالم ممن انغمس في بحر العلم غمسة فحسب أنه صار إماما وحجة !
قال أبو الحصين الأسدي إن أحدهم ليفتي بالمسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر ! وكان الصحابة تدور عليهم الفتيا كلهم يهاب القول فيها ويدفعها إلى أخيه وكان ابن المسيب وهو إمام المدينة في عصره وأكبر فقهائها وسيد التابعين لا يفتي ويقول سلمني وسلم مني ولقد سئل إمام دار الهجرة في وقته مالك بن أنس عن أربعين مسألة فأجاب عن ست وثلاثين منها بلا أعلم ! وكانوا يتعلمون أول العلم وآخره لا أدري جواب الملائكة (لا علم لنا إلا ما علمتنا) وتالله لئن يموت المرء جاهلا خير له أن يقول فيما لا يحيط به ولمّا يضبطه برأيه وكان أحدهم على علو قدره وارتفاع رتبته إذا سئل عن المسألة ليس عنده فيها نص تدبرها ليالي وكان إمام أهل الرأي أبو حنيفة النعمان يعرض المسألة في حلقته على تلاميذه ليسمع قولهم ويسبر قوله ويمحص رأيه خشية الزلل و حذر (أن تقولوا على الله ما لا تعلمون)
شاعت اليوم بين شبابنا في الشام مع شيوع التدين تحت وهج النار فتنة صماء عمياء هذه الفتنة هي فتنة أنصاف أو أعشار العلماء ، لقد كانت إحدى أخطر الفتن التي أضرت بالإسلام وأوقفت رحاه الدائرة دوران الرحى والناعورة هي فتنة أنصاف العلماء من الخوارج ممن نظر في ظواهر النصوص ولم يسبر غور الدين المتين فتعجل الحكم وبادر إلى البتّ من غير روية ولا إحاطة ومن شروط المجتهد والمفتي أن يكون عالما بأحوال زمانه وعادات أهل عصره وأعرافهم فكم من حكم شرعي كان تأخيره أو تركه أولى لمصلحة الدين والمسلمين وقد ترك أمير المومنين عمر التغريب لمّا ارتد ربيعة بن أمية وتنصر وترك أخذ الجزية من بني تغلب وسماها بغير اسمها وأخر عليّ القصاص من قتلة عثمان حتى تستتب الأمور وعزم في أمر معاوية مخالفا لنصح ابن عباس ومغيرة فكانت صفين وبيست صفين ... الخ
حين نشر أحد المغرضين [المتمشيخ عبد الله حمد التميمي وتابعه أحمد جمعة وهما ربيبا فريد الغادري] مقالة حول تسميم مياه بحيرة محردة بالزئبق كتبت مقالة "تحذير من موتور يدعو لتسميم مياه سوريا" تطرقت من جملة الأدلة على حرمة هذا الفعل إلى حرمة قتل الذرية والنساء فاعترضني شاب من حمص المحاصرة على أن قتل أولائك جائز وانتهى به الأمر إلى أن قال أنه قد أعد لي رصاصة مخرومة !! ولما كانت عادتي أن أجيب على كل معترض بالحسنى وأنه من باب الواجب اعترضني مرة شاب يدافع باسم الدين ويحتج بالنسخ واللصق للأدلة فلما سألته والله عن عمره قال 16 عام !!! وهو لا يحسن حتى الكتابة فقلت له أتدري كم لي أضعاف عمرك ؟ فلم يباليني باله ! وعندما قلت لأحدهم إن الشيخ محمد الحامد كان يقول كذا ، أجابني وهو طبيب هو رجل ونحن رجال ! فقلت له لو دخل عليك الشيخ رحمه الله وأنت طبيب حاذق فقلت له أن مرضه كيت وكيت وعلاجه كذا وكذا فقال لك أخالفك القول فقد قرأت على النت أن مرضي كذا وعلاجه كيت وذيّة وأنت رجل ونحن رجال فما تقول ؟ . وبالأمس وإثر تقاحم أربعة من الشبان لإنقاذ امرأة مصابة تركها الشبيحة كطعم لقنص كل من يحاول إنقاذها وكانت النتيجة أن كل الأربعة قتلوا ولم يفلحوا في انقاذها وماتوا جميعا كتبت مقالة في ذلك أستحث الفقهاء على بيان فتوى في ذلك بعد تكرر هذا الحادث المؤلم راجع مقالة فتوى شرعية رابطها أسفل الحاضرة راجعني شخص ينتحل التدين ولمّا يتشبع العلوم ولم تحنكه الخطوب فراح ينهاني بحجة أن ليس فيّ حمية وأن لا غيرة عندي في استنقاذ الحرائر وأن مقالي نافق من قول كل منافق وأني غر مائق ... الخ وهو لا يعلم معنى عموم اللفظ ولا خصوص السبب ولك أن تتخيل حجته في إثبات صحة فعل الشبان الأربعة على اقتحام الهلكة بمعركة بدر وبشجاعة الصحابة ... الخ مما لا يقوله عاقل فضلا عن عالم ممن يدخل فعله وتحريضه تحت قول نبينا صلى الله عليه وسلم "قتلوه قتلهم الله" فأي حال حالنا غدا مع هؤلاء ؟ ومن سيردع ويقنع هؤلاء ؟ لذا فإني أناشد علماء الشام بتأسيس مجلس شرعي يكون بذرة تأسيس مجلس شورى للأمة في المستقبل مما يقطع كثير من الخلاف الضار ويترك الباب واسعا من غير تعنيف أحد على أحد في الخلاف المستساغ ، أهيب بالعلماء والشيوخ أن يفعلوا قبل أن يتسع الخرق على الراقع وتعم الفوضى الفقهية ويغتر كل صغير بما لديه من علم وتغمره الفتنة فلا يوقر عالما ولا يحترم كبيرا ويصير الحبل على الغارب وتستطير الفتنة وتنتشر كالنار في الهشيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.