الربيع العربي وربيع سوريا
الربيع العربي وربيع سوريا
صادق جلال العظم
نشر موقع قنطرة نص محاضرة المفكر العربي صادق جلال العظم التي القاها في برلين. موقع وفيما الجزء الأول من المحاضرة ي حتى يتسنى للقارئ الاطلاع على محتواها:
لربما من المفيد أن أبدأ مداخلتي بتوصيف للربيع العربي ولأهم مستجداته وتجديداته وإنجازاته في الحياة السياسية والاجتماعية لبلدان عربية مركزية ومهمة..
الربيع العربي هو ببساطة عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة بعد اغتراب وابتعاد طويلين بسبب من المصادرة والاحتكار المديدين لكل ما هو سياسي في مجتمعات عربية معينة من جانب نخب عسكرية ومن لفّ لفّها من مصالح طبقية وتجارية وبيزنسية أغلقت الدائرة على نفسها وتحولت إلى ما كنت أسميه سابقاً «بالمجمع العسكري-التجاري» (Merchant-Military Complex) ومايسميه جيل جديد من النقاد والمعلقين والنشطاء في سوريا اليوم بالمجمع العسكري- التجاري – الأمني – المالي، لكن مع الاحجام عن الدخول في أي من تفاصيله.
كما يعني الربيع في سوريا- ببساطة أيضاً- إسترجاع الجمهورية من السلالة الحاكمة إلى الأبد، ومن مجمعّها العسكري- التجاري الاحتكاري لكل شيئ مهم في البلد.
لذا سأحاول تقديم توصيف تقريبي سريع لهذا المجمع. فسوريا كلها تعرف ،على سبيل المثال، أن الطرف الأول في هذا المجمع يتألف من أمراء العسكر والمخابرات والحزب والقطاع العام ومن الأجهزة الحكومية الإدارية العليا ومن بعض الاحتكارات المجزية جداً والمستحدثة أخيراً وجميعها واقع تحت السيطرة العلوية شبه الكاملة. كما تعرف سوريا كلها أيضاً بأن الطرف الثاني في المجمّع يتألف من شرائح اجتماعية مدنية ومدينية وبيزنسية ماسكة بالقطاع الخاص وجميعها واقع عملياً في القبضة السنية.
أما الرموز البشرية التي تدير هذا المجمّع وترعاه فقد تحولت مع الأيام إلى نخبة فاسدة ومتعجرفة إلى أقصى الحدود وواعية بنفسها ولنفسها كطبقة حاكمة مغلقة تتصرف بصلف وفوقية واستعلاء وغرور لاححدود لها معتبرة أنه من حقها أن تكون فوق أي مساءلة أو محاسبة أو نقد مهما كان نوعها أو كانت لطافتها.
تقوم هذه الرموز في النهار بتصريف الأعمال اليومية لسوريا أما في المساء فتختلط وتتلاقى اجتماعياً وتسهر معاً، تدبر الزيجات بين الأبناء والبنات وتعقد الصفقات المربحة من جميع الأشكال والألوان والأحجام وراء الأبواب المغلقة. تعرف دمشق مثلاً أن هؤلاء كلهم يحضرون الحفلات والسهرات ذاتها ويرتادون المطاعم والمقاهي الراقية والنوادي الليلة نفسها ولايتركون مجالاً من مجالات التباهي الأجوف بالاستهلاك المظهري والتفاخري إلاّ وينغمسون فيه صبحاً ومساءً. كما تعرف دمشق أن نساءهم يشاركون معاً في حفلات الاستقبال إياها ويحضرون سوياً الفعاليات الاجتماعية والخيرية والثقافية نفسها أيضاً. مع ذلك فإنهما يكرهان ويبغضان ويحتقران بعضهما بعضاً إلى مالا نهاية. كل طرف من طرفي هذا المجمّع قوي بالنسبة لمقدرته السلبية على هز المجمّع بأكمله وحتى تخريبه ولكنه ضعيف في مقدرته على الفعل الإيجابي والعمل البنّاء داخله وخارجه.
لذلك تجدهما متضامنين متكافلين ومتكاتفين في حماية المجمّع وفي صون ترتيباته واجراءاته واستمراريته وفي إبقاء كل شيء على حاله في سوريا. هذا، على الرغم من أن الطرف المدني التجاري سئم أخيراً إلى حد الغثيان من الشراكات المفروضة عليه بالقوة ومن جانب الطرف الآخر في أعماله التجارية والصناعية والبيزنسية عموماً ومن الأتاوات التي عليه أن يدفعها مرغماً للطرف العسكري- الأمني حتى تسير الأشغال والأعمال كما يجب، ومن الجبايات التي ينتزعها الطرف الأول بالقوة الناعمة أولاً والخشنة إذا لزم الأمر.
ومن أهم النتائج التي أفصحت عنها هذه العودة الربيعية للناس إلى السياسة: أولاً الهزيمة الكاملة والنهائية لفكرة إنشاء سلالات حاكمة في بلدان مثل مصر وليبيا والعراق واليمن عبر نقل السلطة بشكل آلي ومباشر إلى أبناء الحاكم أو إلى أخوته وأقاربه، وثانياً الانتصار، من حيث المبدأ، لقاعدة تداول السلطة ديمقراطياً وانتخابياً وليس تداولها عائلياً وسلالياً. ومعروف أنه تمّ التعبير عن ذلك كله في الصيحة الشعبية المدوية للربيع العربي: «لاتمديد، لا تجديد، لا توريث».
أفصحت هذه العودة الشعبية المتبادلة إلى السياسة عن تطور هام يمكن تسميته بـتجربة ميدان التحرير الجديدة على المجتمعات العربية إن كان ذلك في القاهرة (حيث محور هذه التجربة ومركزها) أو في تونس العاصمة أو في صنعاء أو في بنغازي، ولكن ليس في حمص، سوريا لأسباب معروفة للجميع. ومنذ زمن بعيد لم يحدث أن تركزت مطالب ميدان التحرير وشعاراته ونداءاته وصيحاته وأهدافه على قيم المجتمع المدني و تطلعاته وبرنامجه، كما تركزت في انتفاضات الربيع العربي الراهنة.
مطالب «ميدان التحرير» وأشواقه وشعاراته جميعها كانت تدور حول الحرية والحقوق، والكرامة الوطنية والكرامة الشخصية، التعددية والديمقراطية والشفافية والمساواة والعدالة الاجتماعية. ومع أن القمع العسكري- الأمني في سوريا جعل تجربة «ميدان التحرير السلمية» مستحيلة، مع ذلك ليس بالقليل أن تنعت انتفاضة الشعب السورية نفسها بـ «ثورة الحرية والكرامة» متواصلة بذلك مع تجارب «ميدان التحرير» وتطلعاتها في البلدان العربية الأخرى.
مع ذلك أقول أنه كان لسوريا دوراً رائداً في هذا كله. وأعنى بذلك «ربيع دمشق» الذي أطلقته الأنتلجنسيا السورية سنة 2001 والذي شكل، في نظري، «المقدمة النظرية» والبروفا الأولية السلمية والمسالمة كلياً وقتها لما ستتفجر عنه ميادين التحرير العربية من مطالب وشكاوى ونداءات وتطلعات وتضحيات. أقول أن الريادة في هذا المضمار كانت لربيع دمشق لأن مجموع الشعارات والمطالب والاحتجاجات التي رفعتها ميادين التحرير من تونس إلى اليمن مروراً بالقاهرة وبنغازي والمنامة، موجودة كلها تقريباً وبصيغة راقية وصياغة واضحة في الوثائق النقدية – السياسية – المدنية – الإصلاحية التي طرحتها بقوة وشجاعة «حركة إحياء المجتمع المدني في سوريا» أثناء ربيع دمشق المقموع بشراسة استثنائية، ليتبين فيما بعد أن ربيع دمشق المكبوت عاد تاريخياً على صورة ثورات شعبية عارمة على من قمعوه وتفتح عن أفكار وأشواق جاء زمانها اليوم وحان وقت قطافها الآن.
في تجربة ميدان التحرير، انتقلت كاريزما اللحظة الثورية من التمركز العربي التقليدي على قائد أو زعيم واحد أوحد لا عديل أو بديل له، إلى حراك جموع الميدان نفسها وإلى تصميمها وإشعاعها وأثرها في الجموع نفسها كما في محيطها الأوسع وعالمها الأكبر. فتجربة ميدان التحرير غير مسبوقة –على حد علمي- في تاريخنا السياسي والاجتماعي المعاصر، أي في تاريخ التظاهر العربي أو أشكال الاحتجاج الشعبي أو أنواع المعارضة السياسية الجماهيرية سابقاً.
شاهدنا، على سبيل المثال، حضوراً كثيفاً للمرأة، لم يسبق له مثيل، في ميادين التحرير العربية حتى في المجتمعات الأكثر محافظة وتقليديةً والمدن الأكثر تزمّتاً إجتماعياً، كما شاهدنا أطفالاً ، صبياناً وبناتاً، وهم يرافقون أهاليهم وعائلاتهم إلى تجربة ميدان التحرير. أضف إلى ذلك هذا الانفجار الهائل للمواهب الفنية وأشكال التعبير الإبداعية التي ميزت حراك ميادين التحرير بما في ذلك الموسيقى والغناء والرقص ومسرح الشارع والتمثيليات والأفلام التسجيلية وغيرالتسجيلية، والكاريكاتير الساخر والشعارات المتهكمة بالإضافة إلى الجرافيتي المعبر والناقد الذي ملأ الجدران في الساحات والحارات والميادين. كان هذا المناخ الكرنفالي المبدع يتحدى، بطرقه الخاصة والجديدة تماماً علينا، عسف السطلة ويهدر ما تبقى لها من هيبة ويفضح ما ظلّ لها من الصرامة المفتعلة ويهلهل عبوس وجهها الكئيب.
تمّت هذه الإنجازات كلها بروح الكرنفال المرحة والناقدة والهجّاءة على الرغم من الرصاص الحي، والاقتحامات على ظهور الخيل والجمال وفظاعات البلطجية والشبيحة المعروفة للجميع. لابد لي أن أشير أيضاً أنه في اللحظة الكاريزمية الخارقة التي مثلتها تجرية ميدان التحرير- وفي القاهرة بشكل خاص- كان التسامح والقبول بالآخر والسلوك الحضاري والإنساني عموماً هو سيد الموقف داخل هذه الجموع الشابة والغفيرة، ففي القاهرة رأينا رجال دين مسيحيين بملابسهم المميزة وصلبانهم الظاهرة يؤدون صلواتهم وشعائرهم الدينية في ميدان التحرير وإلى جانبهم شيخ يؤم صفوف طويلة من المسلمين في الصلاة وذلك دون أي حرج أو توتر أو تدخل من جانب أحد. كذلك معروف أن مدينة مثل القاهرة المشهورة بمشكلة التحرش المؤذي بالنساء، لم تسجل حادثة تحرش واحدة ولم ترفع أية شكوى بهذا الصدد خلال الأيام التي استغرقتها تجرية ميدان التحرير لإسقاط حسني مبارك.
أما في سوريا، فقد استحال تكرار تجربة ميدان التحرير بسبب من القمع الدموي المباشر للتظاهرات السلمية وللمتظاهرين المسالمين، واستعاضت سوريا عن تجربة ميدان التحرير الصاخبة بتجربة من نوع آخر هي توزيع بؤر الحراك الثوري السلمي في البداية والمسلح فيما بعد، على أنحاء سوريا كلها تقريباً في وقت واحد، مما أدى إلى التشتيت الكامل لقوات القتل الأسدية وإنهاكها واستنزافها مطبّقة في ذلك، من حيث تدري أو لا تدري، استراتيجيات وتكتيكات عرفت بها حركات التحرر الوطني في القرن الماضي لتحييد التفوق الناري والعتادي والتعدادي للجيوش النظامية وقواتها الضاربة قدرالإمكان. لذلك شاهدنا القوات الخاصة الأسدية وهي تهرع من درعا في جنوب سوريا إلى الحدود التركية ومن ثم تعود مسرعة إلى وسط البلاد وجنوبها دون أن تتمكن من إتمام مهمة إخماد أية بؤرة من بؤر الثورة إخماداً كلياً.
لذلك نجد أن مدينة صغيرة نسبياً مثل درعا (أو غيرها) تم احتلالها من جانب قوات الأسد الضاربة والانسحاب منها ومن ثم احتلالها مجدداً حوالي 20 مرة خلال بضعة أشهر. وعلى الرغم من ذلك كله، بقيت الروح الكرنفالية التي طبعت الربيع العربي عموماً تسري وتتحرك وتعبر عن نفسها في كل بؤرة من بؤر ثورة الشعب السوري. لذا نجد أن بعض أهم وأروع التعبيرات الفنية الهادفة للربيع العربي قد خرجت من سوريا وأنتجتها ثورة سوريا: الأغنية، الرقصة، التمثيلية، الفيلم، الفيديو، الكاريكاتير الصارخ، الشعار المتهكم، التعليق الساخر، الموقف المستهزئ، النكتة الحارقة الخارقة، مما لم يبق على النظام وعصابته ستراً مغطى، كما نقول، ومما لم يترك له هيبة تُذكر أو شخصية تُنظر.
كما تميزت ثورة الربيع السوري بعفويتها الشعبية وتنسيقياتها الشبابية وابتعادها الحميد بالتالي عن التعلق بشخصية قيادية كاريزمية واحدة ،كما جرت العادة العربية، وتكون بذلك قد كسرت تقاليد الزعيم الأوحد والقائد الملهم والحزب الواحد والرأي الواحد والتنظيم الواحد وما إليه مما اعتاد عليه العرب وعلى رأسهم سوريا. ولربما يكون في ذلك تمهيداً لمستقبل أكثر ديمقراطية وحرية مما عرفناه حتى يومنا هذا.
ومن أهم مظاهرهذا التوجه البؤري للثورة السورية الاستخدام الهائل والمذهل لأحدث وسائل الاتصال والبث والاستقبال الإلكترونية، استخدام بارع بكل المعايير في خدمة الثورة وأهدافها وفي تحطيم نهائي لكل ما اعتادت عليه الدولة البوليسية القائمة من الاحتكار الكامل للمعلومات ومنع تداولها الحر بين الناس والسيطرة ذات البعد الواحد على كل ما له علاقة بالإعلام والثقافة والفكر والميديا.
ولا أعتقد أني أبالغ إن أنا وصفت الإنجاز الأعظم للثورة في سوريا حتى الآن على النحو التالي: فالنظام العسكري – الأمني – المخابراتي – المالي الذي عرفناه وعرفنا، كان يعتد بنفسه ويتصرف على أساس أنه كتلة صلدة من الغرانيت تُفتت أي شيء أو أي كان يصطدم بها، قلعة محصنة تحصيناً تاماً لا يقهر، قلعة غير قابلة للاختراق أو الاهتزاز أو حتى مجرد الاقتراب منها. كان ضباط هذا النظام يقدمون للمعتقلين السياسيين لحظة الإفراج عنهم النصيحة التالية، كما كتب ميشيل كيلو : لماذا تتعبون أنفسكم بشيء اسمه معارضة ونقد وإصلاح وعمل سياسي في الوقت الذي تعرفون أن متانة وحصانة وقوة نظامنا لن تسمح لكم بالنيل منه بأي صورة من الصور. اذهبوا واشغلوا أنفسكم بأمور أخرى ربما تعود عليكم بفائدة ما. الآن، انظروا إلى ما فعلت الثورة السورية، عبر تضحيات شعبها الهائلة، بهذا النظام العسكري- الأمني المدّعي بأنه قاهر ولا يقهر وإلى أي حال من الهلهلة والهزال أوصلت الثورة السورية كتلة الغرانيت هذه بكل ادعاءاتها وعنجهيتها وصلفها وعجرفتها ووحشيتها ودمويتها. بعبارة أخرى، حين اصطدمت كتلة الغرانيت بثورة الشعب السوري تفتتت هي وسقطت وتحولت إلى شبح لما كانت تعتقده في نفسها وتظنه عن نفسها وتدّعيه لذاتها.
يجري إخفاء هذا الانجاز الكبير للثورة السورية عبر ثلاثة أنواع من الخطاب الذي كثيراً ما يتردد دولياً وإقليمياً ومحلياً.
النوع الأول: يكرر الكلام إلى مالا نهاية عن كم أن الوضع في سوريا- الثورة معقد وغامض وحساس ومركب ومتفجر وما إلى ذلك من العبارات والأوصاف. لكن لنسأل أين التعقيد والغموض والحساسية المفرطة حقاً في وضع واضح في جوهره: نظام أقلوي معسكر عسكرة عالية جداً ومسلح تسليحاً هائلاً يستند إلى عصبية طائفية صغيرة وضيقة وهو يفتك بثورة عمادها الأكثرية في البلاد مستخدماً الأسلحة كافة من الخفيف إلى الثقيل إلى صورايخ سكود وأورغان ستالين وصولاً إلى السلاح الكيماوي لضرب المدن والقرى والأحياء والمزارع والأحراش والغابات التي تقطنها هذه الأكثرية وتعيش فيها منذ قديم الزمان. لذا ليس صحيحاً على الإطلاق القول الدولي والعالمي بأن في سوريا حرباً أهلية بالمعنى المعروف للعبارة. كانت الحرب أهلية في لبنان لأن الطوائف الرئيسية في البلد تسلحت لتحارب بعضها البعض الآخر في صراع على السلطة والثروة والموارد، فيما وقفت الدولة اللبنانية على الهامش عاجزة عن فعل أي شيء بالنسبة للنزاع المسلح بين مكونات المجتمع اللبناني وطوائفه الدينية.
أما في سوريا فلا يوجد مايشير على الإطلاق إلى أن الدروز، مثلاً، يستعدون لغزو جيرانهم السنة في حوران، أو أن السنة يحضرون أنفسهم لاقتحام الأراضي الاسماعيلية أو أن كرد سوريا على وشك الاعتداء على المسيحيين فيها، أو أن الاسماعيليين يرغبون في تصفية حسابات قديمة مع العلويين. على عكس لبنان، الفاعل الرئيسي في سوريا هو النظام نفسه مسخراً الدولة وأجهزتها وموظفيها ومواردها لحربه الشعواء على الشعب السوري عموماً وعلى أكثريته السنية تحديداً، هذه ليست حرباً أهلية بأي معنى من المعاني الجدية للعبارة. كما أن تطرف النظام في عسكرته وتدميره ومذابحه لا تقاس على الإطلاق بالتطرف الذي كثيراً ما ينسب إلى الثورة نفسها أو لبعض مكوناتها، علماً بأن التطرف يستجر التطرف والبادئ أظلم.
أما النوع الثاني من الخطاب فهو الذي يتردد ، بخاصة دولياً، حول حفظ حقوق الأقليات في سوريا وحمايتها. نسمع هذا الكلام في الوقت الذي نعرف فيه أن مناطق الأقليات ومدنها وقراها وأحياؤها هي الأكثر هدوءاً وسلامة اليوم في حين أن المناطق والقرى والمدن التي تعرضت للدمار المتعمد والخراب المقصود ولإرهاب المذابح هي للأكثرية السنية وتابعة لها. كما أنه في هذا الخطاب إجحاف كبير في حق سوريا وتاريخها الحديث عندما يوحي وكأن الأكثرية السنية ليس لها هم سوى انتظار اللحظة المناسبة للبطش بأقليات البلد وهذا قطعاً غير صحيح، فالأكثرية السنية تعتبر نفسها أم الصبي، في هذه الحال، وهي لا تريد فسخه إلى أشلاء، فسوريا اليوم بأكثريتها وأقلياتها بحاجة إلى صيانة الحقوق وإلى الرعاية الشاملة وليس أقلياتها فحسب، فللأكثرية حقوق تحتاج إلى حماية أيضاً.
ونحن اليوم أمام نظام استبدادي أقلوي يدمر أكثرية البلد الآن بذريعة حماية الأقليات في اليوم التالي. أدّى وعي هذه المفارقة أخيراً إلى إعلان الثورة يوم الجمعة 26 نيسان (أبريل) بـ «جمعة حماية الأكثرية.
أما النوع الثالث من الخطاب فهو الذي لا يهمه من الثورة السورية سوى «لعبة الأمم» والتحليلات «الجيوسياسية» الكبرى وحكايات تصادم مصالح الدول العظمى وغير العظمى ومشاريعها ومؤامراتها الكونية على حسابنا نحن كسوريين ثائرين وأحياء اليوم وعلى حساب فهم الأسباب الداخلية والوطنية والمحلية التي دفعت بالشعب السوري إلى الثورة سلمياً ومن ثم إلى حمل السلاح في وجه الديكتاتورية الوطنية والبطش العروبي الممانع. يضحي هذا الخطاب بسوريا والسوريين على مذبح الجيوسياسة التي لا قِبل لنا بها، وعلى مذبح لعبة الأمم الجارية في السماء السابعة وفوق رؤوس الجميع. وعلى مذبح آلاعيب الدول العظمى المتعالية على كل شيء، وللأسف فإن قسماً لابأس به من اليسار العربي والدولي والاقليمي والمحلي قد انجرّ إلى هذا النوع من الخطاب والتفكير والتحليل في تناوله لثورة الشعب السوري.
اقول هذا كله صراحةً لأنني لاحظت أنه في الاجتماعات والمداولات واللقاءات والندوات والمناقشات والكتابات السورية ذات الطابع العام التي حضرتها وشاركت فيها هناك عزوف مقصود وهروب متعمّد عن أي ذكر علني للانقسام الطائفي الحاصل في سوريا الآن أو حتى الاقتراب منه مواربة وعن دوره في تمكين النظام من تجييش الشبيحة واستدعاء حزب الله لارتكاب المجازر في وضح النهار في قرى وأحياء وبلدات ذات انتماء مذهبي مختلف. هذا، بالاضافة إلى الابتعاد المفتعل عن عبارات مثل «الأكثرية» و «الأقلية» (أو «الأقليات») في سورية وبخاصة الإحجام عن ذكر الطبيعة الأقلوية الموصوفة لنظام الحكم والسيطرة العسكرية والأمنية في البلد، من جهة، وعن العامود الفقري السني للثورة، من ناحية ثانية.
بعبارة أخرى، نحن أمام حالة إنكار ظاهري مظهري من جانب المشاركين والمشاركات في هذه المناقشات والمداولات العامة للبعد الطائفي في الثورة السورية وأثره البالغ الذي يتكشف يوماً بعد يوم، وهروب من تناوله العلني والتصدي له بوعي عارف. هذا، على الرغم من أن كل واحد من المشاركين والمشاركات يعرف بداخله جيداً أن الذي يضغط على عقل كل واحد منا ووجدانه في الاجتماع أو اللقاء هو هذه المسائل تحديداً والتي لا يريد أحد ذكرها وكأن ذكر الشيء يقربه وربما يزيده سوءاً، كما أن عدم ذكره يبعده وربما يكفينا شره
أما في جلساتنا الحميمة والضيقة والمغلقة مع الأصدقاء والموثوقين حيث تسود الصراحة والشفافية فما من حديث عن الثورة السورية وأحوالها إلاّ وتطغي عليه موضوعات الأكثرية والأقلية وما من نقاش إلاّ ويدور عن السنة والعلويين والشيعة والكرد والمسيحيين والدروز .. الخ، حيث نذكر أمام بعضنا وقائع وحقائق وأشياء لا نرددها في العلن أبداً ولا نقترب منها في الاجتماعات الموسّعة تتعلق كلها تقديرنا لموقف هذه المكونات وتطلعاتها وطموحاتها ومخاوفها ومستقبل العلاقات معها وبينها ..الخ.
ولا بد من التأكيد أيضاً أنه ليس عيباً أو وقوعاً في أوحال الطائفية البغيضة أن يعترف صراحةً الملتزمون بالثورة ويقرون علناً بوقائع صلبة وحقائق بينة من النوع التالي:
• أن السواد الأعظم من المشردين واللاجئين والمشتتين السوريين هم من الأكثرية السنية بسبب من التدمير الممنهج لقراهم ومدنهم وأحيائهم وحقولهم ومصادر عيشهم.
• أن العلويين هم العامود الفقري للنظام العسكري- الأمني الحاكم ولقواته الضاربة و شبيحته بشكل خاص.
• أن السنة هم العامود الفقري للثورة وما كان لها أن تستمر هذه المدة كلها لولاهم.
• أن تطرف النظام وغلّوه منذ البداية في تنفيذ القمع العسكري- الأمني للثورة هو الذي استدرج تطرفاً مضاداً وغلواً معاكساً في أوساط الثورة، تماماً كما أن عسكرة الثورة لم تكن إلاّ رد فعل طبيعي على التمادي في ما أصبح يسمى عادةً «بالحل العسكري-الأمني» الذي أصر عليه النظام في محاولة للخروج من المأزق الذي أوصل نفسه إليه.
• أن هناك مقدار هائل من الكلبية (cynicism) والنفاق في الخطاب الدولي وغير الدولي الذي يركز على مسألة حماية الأقليات في سوريا وصون حقوقها وما شابه ذلك في اللحظة التي يقع فيها الدمار والخراب والقتل والاعتقال والتعذيب والمذابح على الأكثرية السنية وحدها تقريباً. إن الإقرار والاعتراف بذلك كله هو جزء هام جداً من وعي الثورة بنفسها ولنفسها.