حول التفاوض مع الآخر

أ. د. عماد الدين خليل

أ. د. عماد الدين خليل(*)

سأتناول - وبإيجاز تام - المسألة من الزاوية التاريخية الصرفة، أما بُعدها الفقهي، والقانوني، والسياسي، فقد تولاّه الباحثون كل في دائرة تخصّصه.

وأغلب الظن أن الجميع متفقون على أن التفاوض مع "الآخر"، أو التهادن معه - على تغاير التفاصيل - لن يتشكل في دائرته الطبيعية المتفق عليها ما لم يكن الطرفان أنداداً، إن على مستوى القوة مع إعطاء هامش معقول للفارق، أو على مستوى الاستقلالية التامة في اتخاذ القرار، دونما أي قدر من الضغط، أو القسر، أو الإكراه، لهذا السبب أو ذاك.

وأول شروط الندّية ولا ريب هو أن يكون لكل من الطرفين "دولة" أو سلطة فاعلة تمتلك مقوّماتها الدستورية والعسكرية والسياسية كاملة، وتملك حق اختيار الشروط المناسبة، والموازنة بين المكاسب الضرورية الملحة، وتلك التي يمكن التنازل عنها أو التساهل بخصوصها.

وبقدر تعلق الأمر بهذه الورقة فإن التأشير سيمضي إلى الخبرة التاريخية للبحث عن مؤشرات العمل المتحققة في هذه المرحلة أو تلك من تاريخنا الإسلامي.

أما تنزيل ذلك على القضية الفلسطينية، أو الاستهداء به لإضاءة السبيل أمامها في اللحظة الراهنة، فذلك أمر متروك – أولاً - لأصحاب القضية أنفسهم، فهم أدرى بشعابهم، وثانياً للمختصين في الفقه أو القانون أو السياسة، فهم بسبب أدواتهم أولى بالحكم على مطالب اللحظة الراهنة من المؤرخ الذي تنحصر مهمته في الكشف عن الوقائع التاريخية، والبحث عن مغزاها في هذا السياق أو ذاك.

ومن أجل التركيز، وعدم تجاوز المساحة المعطاة لهذه الورقة، سيتم الإشارة على حلقتين تاريخيتين فحسب، هما عصر الرسالة وعصر المقاومة الإسلامية للغزو الصليبي، بسبب ارتباطهما الوثيق بالموضوع الذي بين أيدينا.

ففي الحالتين المذكورتين كان المفاوض المسلم يملك "دولة" ذات قرار مستقل، ويتعامل بتكافؤ تام مع الطرف الآخر، يأخذ ويعطي، يقبل ويرفض، يتشبث ويتساهل، منطلقاً من كونه صاحب الرأي الأوّل والأخير في الشروط التي سيتم الاتفاق عليها بكل تفاصيلها ومواصفاتها.

في صلح الحديبية مارس الرسول القائد صلى الله عليه وسلم تفاوضه مع المبعوث القرشي سهيل بن عمرو ممارسة الندّ للندّ.. صحيح أنه - لحكمة يريدها - قَبِل التنازل عن بعض الأمور الإجرائية التي لا تزيد ولا تنقص في شروط المعاهدة، ولكنه خلص إلى جملة اتفاقات كشفت الأحداث اللاحقة عن كونها جاءت لصالح المسلمين، رغم أنهم لم يرتاحوا في البدء لما اعتبروه نوعاً من التنازل.. ولكن أبا بكر رضي الله عنه لمس برؤيته الثاقبة الحصاد الكبير الذي سيتمخض عن شروط الصلح التي عزلت مكة قاعدة الوثنية، عن أنصارها في جزيرة العرب، وجمّدت مقاومتهم لانتشار الإسلام الذي امتدت دعوته إلى اليمن جنوباً، ومكنت الرسول صلى الله عليه وسلم من التفرغ لضرب آخر تجمع يهودي عسكري معادٍ في خيبر.

وبالنسبة لصلح "الرملة" الذي عقده الناصر صلاح الدين الأيوبي مع الملك الإنجليزي "ريتشارد قلب الأسد" الذي كان يقود الحملة الصليبية الثالثة على بلاد الشام وفلسطين، فقد جاء بعد سنوات قلائل من ذلك الانتصار الكبير الذي حققه الناصر ضد الصليبيين في معركة "حطين" (583هـ) واستثماره الفوز ليس في تحرير القدس فحسب، وإنما في القيام بحركة عسكرية سريعة لتحرير معظم البلدان من قبضتهم، بحيث لم يتبق لهم في نهاية الأمر سوى شريط من الأرض مطل على البحر لا يتجاوز التسعين ميلاً طولاً وبضعة أميال عمقاً..

ورغم أن الحملة الصليبية الثالثة قد حققت انتصاراً مهماً في إسقاط عكا واتخاذها نقطة ارتكاز للردّ على المسلمين، إلاّ أن الصراع الذي شهدته السنوات التالية (583 - 588هـ) لم يتمخض عن نتيجة حاسمة، ومحاولات الصليبيين لاسترداد القدس باءت بالفشل.. وعندما جرت مفاوضات صلح "الرملة" كان صلاح الدين يتعامل كندّ قوي لخصمه الإنجليزي، وكان يملك دولة تمتد من الأناضول شمالاً حتى اليمن جنوباً، ومن الجزيرة الفراتية والشام شرقاً حتى ليبيا والنوبة غرباً.

ولذا جاءت شروط ذلك الصلح مؤكدة بقاء القدس بيد المسلمين شريطة أن يسمح للحجاج المسيحيين بأداء مراسمهم فيها بسلام.

ومن المعروف لدى جلّ المعنيين بالهمّ السياسي أن هناك ثلاث حالات في أي تفاوض أو تعاهد بين طرفين؛ أولاها: أن تكون أنت الأقوى فتخرج بشروط أفضل وأكثر ضماناً.

وثانيتها: أن تكون نداً للآخر فتخرج وإياه بشروط متكافئة.

وثالثتها: أن يكون الآخر أكثر قوة وتمكناً منك فتخرج بشروط قد لا يكون بعضها على الأقل في صالحك.

والآن، فإن ثمة جملة من الأسئلة والإشكاليات تفرض نفسها قبالة هذا العرض التاريخي الموجز، وتتطلب جواباً، ومن بين هذه الأسئلة وربما أكثرها إلحاحاً، هو: هل الفلسطينيون امتلكوا أو سيمتلكون المقومات والشروط التي تجعل من تفاوضهم مع الآخر، أو التهادن معه أمراً ممكناً يتحقق معه مبدأ حماية الثوابت الفلسطينية المتفق عليها من مثل: القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، وحق عودة اللاجئين، والتحقّق بالشروط الجيوبوليتكية للدولة الفلسطينية، بما في ذلك إزالة الجدار العازل، وإلغاء المستوطنات، وتحقيق التواصل الجغرافي الديموجرافي بين الفلسطينيين؟! وهي جميعاً أمور حاسمة كافح الشعب الفلسطيني من أجلها ما يزيد على نصف قرن من الزمان.

               

(*) مفكر إسلامي – أكاديمي عراقي.