القدس .. بين الحق والمتاجرة
محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة
في ثنايا المشهد المأساوي الذي تحياه الأمتان العربية والإسلامية اليوم، تبرز حقائق تاريخية حاول مرتزقة الطائفية تغييبها، تحت شعارات القومية أو الوحدة الإسلامية.
ومن جملة هذه الحقائق القضية الفلسطينية ومدينة القدس، حتى باتت القضية المحورية والطاغية على كل ما سواها في عالمنا العربي والإسلامي، تارةً بإخلاص وحسن نية من قبل بعض الحكومات، وتارةً بمكر ومتاجرةٍ من قبل البعض الآخر، لشغل الناس عن حقوقهم في بلدانهم، وللتغطية على جرائم الأنظمة المستبدة في سبيل الحفاظ على الوضع القائم بينها وبين شعوبها بصورة (الربوبية والعبودية).
وما زاد الطين بلة أن يدخل البُعد الطائفي بما يحمله من أحقاد دينية وضغائن تاريخية - تتجلى اليوم في أكثر من جبهة - على خط المتاجرة بهذه القضية، لتصبح إيران "الخمينية" بشكل يدعو للسخرية "رمزاً لمقاومة المحتل الصهيوني ومناهضة التطبيع على حساب الحقوق العربية والإسلامية"، ولتغدو أذنابها في المنطقة أدوات مزعومة "للمقاومة والتصدي والممانعة".
من هنا أستأذن القارئ الكريم لأسوق إليه بعض الحقائق الدينية والتاريخية التي تبرهن على أن دور إيران وأذنابها في تلك القضية ليس سوى متاجرة لا تستند إلى أسس دينية ولا مبادئ أخلاقية.
فالروايات المتفق عليها تنص على أن فتح بيت المقدس (إيلياء أو القدس) كان على يد الخليفة الراشد عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بعد حصار للمدينة دام أشهراً، حتى اشترط قساوسة بيت المقدس وكهنتها أن تسلم مفاتيح المدينة إلى الخليفة بنفسه، فاستشار عمرُ بن الخطاب عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنهما في أمر الخروج إلى بيت المقدس فأشار عليه بذلك، بعد أن كان قد نهاه عن الخروج إلى العراق خوفاً من غدر الفرس المتسترين بالإسلام.
وخرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب متوجهاً إلى بيت المقدس بعد أن ولى علي بن أبي طالب على المدينة، ليصل إلى مقصده في قصة مشهورة، وليتسلم مفاتيحَ المدينة المقدسة، ويقدم الضمانات التي كفلها الإسلام لمواطني الدولة المسلمة باختلاف أديانهم ومعتقداتهم، في وثيقة عُرفت بالعُهدة العُمرية، وليفرض على أهلها الجزية التي توازي الزكاة بالنسبة للمسلمين، وكلاهما تقابلان "الضريبة" التي تدفع لخزينة الدولة لصرفها في الصالح العام، وإن اختصت الزكاة بدلالات دينية واجتماعية معينة.
كما اشترط أهل بيت المقدس من المسيحيين ألا يشاركهم اليهود في سُكنى المدينة، والتي كانت خاليةً تماماً من العنصر اليهودي منذ غزوها على يد الإمبراطور الروماني (إيليوس هدريان) في القرن الثاني الميلادي، فأعطاهم عمر هذا الشرط، وقيل إنه اعتذر عن هذا الشرط بأن القرآن الكريم قد حدد ما لأهل الكتاب وما عليهم، وليس فيه شيء يسمح بهذا، ولكنه تعهد لمسيحيي القدس بألا يدخل أحد من اليهود إلى مقدساتهم أو يسكن في حاراتهم.
وتذكر الروايات أنه وبينما كان الفاروق عمر يُملي هذا العهد إذ حضرت الصلاة، فدعا البطريرك عمرَ للصلاة حيث هو في كنيسة القيامة، ولكنه رفض حفظاً للحقوق المسيحية في المستقبل، وقال رضي الله عنه: أخشى إن صليت فيها أن يغلبكم المسلمون عليها ويقولون هنا صلى عمر بن الخطاب.
وُقعت هذه الوثيقة التي ما زالت في كنيسة القيامة بالقدس سنة 15 للهجرة، وشهد على بنودها بعض القادة المسلمين، منهم: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبدالرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان.
أود أن أصل بهذا السرد التاريخي إلى نقطة جوهرية تنقض مزاعم إيران الشيعية الصفوية في الدفاع عن القضية الفلسطينية، فالخليفة وشهود العُهدة كلهم مرتدون في نظر مذهب الخميني، وأحكام وأفعال الخليفة "الجائر" عند الشيعة لا تصح ولا تنفذ، فإذا كان فتح بيت المقدس على يد هؤلاء "المرتدين الجائرين" فأين مزاعم إيران بأنها أرض إسلامية؟ وكيف نفهم تشكيل الخميني لما يسمى بجيش القدس؟ وتسميته ليوم القدس؟ وما علاقة الشيعة بأرض هؤلاء فاتحوها؟ إلا أن يكون الأمر برمته متاجرةً وتقية وضحكاً على الذقون.
أعود لأستشهد بمثال - وأعتذر لبعده عن الموضوع - ينقض ما يذهب إليه الشيعة الصفويون بجور خلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر وعمر وعثمان، وإقرارهم بعدم صحة ونفاذ أحكام وأفعال الخليفة الجائر، وهو أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخذ جارية من سبي بني حنيفة في حرب الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع المرتدين، ومنها رُزق - كرم الله وجهه - بمحمد المعروف بابن الحنفية.
ملحق
نص وثيقة العُهدة العُمرية في فتح بيت المقدس
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبدالله عمر أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصُلبانهم وسقيمِها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تُسكن كنائسُهم ولا تهدم ولا ينتقصُ منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يُضارّ أحد منهم، ولا يَسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يُحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية..
عمر بن الخطاب
شهد على ذلك:
خالد بن الوليد - عمرو بن العاص - عبدالرحمن بن عوف - معاوية بن أبي سفيان
وكتب وحضر سنة خمس عشرة للهجرة.