إسرائيل تضرب وتصيب وتهرب وتضحك
إسرائيل تضرب وتصيب وتهرب وتضحك
د.مصطفى يوسف اللداوي
إلى متى سيبقى الكيان الصهيوني ينفذ عملياته العسكرية والأمنية بخبثٍ ومكرٍ ودهاء، يتسلل بصمت، ويضرب في الخفاء، وينسحب بسرعة، بعد أن يصيب الأهداف المرصودة، محاولاً ألا يترك أثراً، أو يخلف اعترافاً يدل عليه، معتقداً أن أحداً لا يعرف أنه المنفذ، وأنه الذي يقف وراء الكثير من الهجمات العسكرية، حيث ينتهز فترات الضعف، وانشغال الأمة، فيغير بطائراته على أهدافٍ مرصودة، فيصيبها أو يدمرها، ثم يفر هارباً، قافزاً في الهواء، يضرب رجليه ببعضهما فرحاً وزهواً، فقد أصاب أهدافه، وحقق غايته ورجع، بينما الحكومات العربية تنظر إليه بعجزٍ وذلٍ وهوان، وتراه وهو ينسحب، وتسمع صوته وهو طَرِبٌ، وتراه وهو يوزع كؤوس الخمر، ويشرب نخب الانتصار، ويتبادل التهاني والمباركات، إذ لا يقوى على أن يرد عليه أحد، أو يعامله بالمثل نظام، الأمر الذي زاد في غطرسته، وجعله يتمادى أكثر في غيه، فقد ضمن العاقبة، وأمن الإنتقام، واطمأن إلى أن أحداً لن يطلق الصواريخ عليه.
اعتاد الإسرائيليون على التوغل عميقاً في أرضنا العربية، وضرب أهدافنا في القلب والخاصرة، غير مبالين بالرأي العام الدولي، وغير آبهين برد الفعل العربي الناقم والمنتقم، وكانوا قد جربوا انتهاك الأجواء العربية أكثر من مرةٍ، فعرفوا العاقبة، وخبروا رد الفعل، فتمادوا وأمعنوا، وهاجموا واعتدوا، ووطنوا أنفسهم بعد كل عمليةٍ ناجحةٍ مخافة أن تصيبهم صواريخ العرب الورقية والكلامية، فرفعوا حالة الأمن إلى الدرجات القصوى، وحصنوا سفاراتهم، وأبعدوا عائلاتهم، وكثفوا متابعاتهم الأمنية لئلا يفاجئهم العرب بما لم يعتادوا عليه.
فقد أغارت الطائرات الإسرائيلية في العام 1981 على مجمع تموز النووي العراقي، ودمرت البرنامج النووي العربي الأول مبكراً، وأجهضت محاولات امتلاك العرب لقوةٍ نووية، وتبجح الإسرائيليون باعترافهم أنهم من دمر المفاعل النووي العراقي، وأكد زعيمهم آنذاك مناحيم بيغن أنه كيانه سيواصل ضرب الأهداف العربية المعادية لكيانه في كل مكان، وامتص النظام العراقي الضربة، وابتلع الإهانة، وتجرع المهانة، وصمت، ولكنه أكد أنه يحتفظ بحق الرد، في الزمان والمكانين المناسبين، ولكن الزمان لم يأتِ، والمكان لم يتحدد بعد، وضاع المفاعل.
وأقدت الطائرات الإسرائيلية في سابقةٍ خطيرة على انتهاك الأجواء والأراضي التونسية في العام 1985، وأغارت على حمامات الشط الآمنة الوادعة، ودمرت مقار منظمة التحرير الفلسطينية، وقتلت العشرات من رجالها وقادتها، وخلفت وراءها دخاناً كثيفاً، ما كاد أن ينقشع حتى كان الإسرائيليون يعترفون أنهم من أغاروا على تونس، وأنهم من دمر مقار المنظمة فيها، ولكنهم لم يعيروا تهديات تونس والعرب اهتماماً، وأقفلوا عائدين إلى قواعدهم الجوية، ليتهيأوا لغارةٍ جديدة.
وفي العام 1988 أقدمت فرقة من الكوماندوز الإسرائيلية بالتسلل إلى أحد أحياء تونس العاصمة الراقية، حيث يقم أبو جهاد الوزير الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية، صاحب ملف القطاع الغربي المسؤول عن كافة العمليات العسكرية في فلسطين المحتلة، فاغتالته وتأكدت من مقتله، وقفلت عائدة إلى زوارقها التي أنزلتها على الشواطئ التونسية، دون أن تفقد عنصراً منها، أو يصيبها من العملية ضررٌ أو أذى.
أما السودان فقد اعتاد العدو الصهيوني على انتهاز انشغاله المضني والدائم في الصراع المسلح في الجنوب، أو حول دارفور وكردفان، فاستغل انهماك الحكومة، وانشغال الجيش، وفوضى الحياة، فضلاً عن ضعف القدرات العسكرية لدى السودان، فأغار على قلبه وأطرافه أكثر من مرة، واستهدف معامله ومصانعه، وأغار على قوافله ورجاله، فقتل وخرب ودمر، وانسحبت طائراته وهو يعلم أن العرب لن يثوروا من أجل السودان، ولن يغضبوا لاختراق أجوائه وانتهاك سيادته، فانسحبوا وهم يهددون، واعترفوا وهم يتوعدون.
ونجحوا في الدخول إلى دولة الإمارات العربية فرداى وجماعات، ولاحقوا فيها القيادي الكبير محمود المبحوح، ونالوا منه في أحد فنادق دبي، وحاولوا أن يمسحوا آثار جريمتهم، وألا يتركوا خلفهم ما يدل عليهم، ولكن أسماءهم كشفت، وأدوارهم عرفت، وتفاصيل جريمتهم الخبيثة فضحت، ولكن أحداً من المجرمين على كثرتهم لم يعتقل، ولم يلاحق أياً منهم، بل عادوا إلى البلاد التي جاؤوا منها وكأنهم لم يرتكبوا جريمة، ولم يقتلوا قائداً، وربما عاد بعضهم مرةً أخرى إلى دبي، مطمئتأً آمناً غير خائف.
وفي سوريا اعتاد الكيان الصهيوني على استباحة أجوائه، واختراق سيادته، والتحليق في سمائه، فحلقت طائراته العسكرية فوق القصور الرئاسية والمواقع العسكرية، ودمرت منشأةً علمية، عسكريةً أو نووية، المهم أنها سورية، ولم تنكر أنها التي قامت بهذه الأفعال، بل جاهرت بها، لتعود من جديد، وتغير على أهدافٍ عربيةٍ في سوريا، فتحيل الأرض والمكان إلى قطعةٍ من جهنم، ولهيبٍ من يوم القيامة، ولكنها كانت تدرك أنها ستعود من رحلتها بصيدٍ وفير، وكسبٍ كبير، إذ لن يعترض طريقها أحد، ولن يجبرها على الندم انتقامٌ أو تهديد.
أما لبنان وفلسطين، الضفة الغربية وقطاع غزة، فأمرهما يختلف، وحالهما مغاير، فالعدو الصهيوني قد اعتاد على الإغارة والقصف، والقتل والاغتيال، ولكن المقاومة اعتادت أيضاً على الرد والانتقام، فهي تتوجع وتتألم، وتفقد وتخسر، ولكنها دوماً تجبر العدو على أن يصرخ من الألم، ويرفع الصوت طالباً من المجتمع الدولي حمايته، ولجم المقاومة ومنعها، ووضعِ حدٍ لانتقامها وعملياتها، إذ أن صواريخها حاضرة، ونيرانها جاهزة، وقراراتها مستقلة وحرة، وعقيدتها القتالية نقية وصافية، لا يشوبها تشويهٌ أو خداع، فهي تهدد وتتوعد، وتقول وتفعل، وتحدد وتنفذ، وتوجع وتؤلم، وتبكي وتدمي.
يجب أن تنتهي سياسة العدو التي اعتاد عليها، اضرب واهرب، أو اقتل بمسدسٍ كاتمٍ للصوت وانكر ولا تعترف، فلن يحملك المجتمع الدولي أي مسؤولية، ولن يقوى أحدٌ على اتهامك ومحاسبتك، ينبغي أن تنتهي هذه العنجهية الإسرائيلية، وأن نضع حداً حقيقياً وفاعلاً لها، فيجب علينا ألا نسمح للعدو بالهروب إن ضرب، وبالإنكار إن اعتدى، ولكن نرد عليه بالمثل، ونعامله بما هو أشد وأقسى، ليكون له درساً وعبرة، ونرد له الصاع صاعين، واللطمة على الخد لطمتين موجعتين على الخدين الاثنين، تؤلمانه وتبكيانه وتعلمانه، لئلا يعود لمثلها، وتكرار شبيهاتها، فالثمن يجب أن يكونَ غالٍ ومؤلم، وغائر وموجع.
المقاومة هي خير من يفهم العدو الإسرائيلي ويتعامل معه، فهي تعرف اللغة التي يفهمها، وتدرك مواطن الضعف عنده، ومكامن الألم في جسده، وتعرف حال شعبه، وقدرتهم على الصمود والاحتمال، وهي تدرك قوة شعبها، وروح أمتها، وتعرف أن الأمة تتحمل المزيد، وتصبر على الجراح، ولكن شرط الرد والانتقام، لذا فقد أمطرتهم بالصورايخ، ووعدتهم بالمزيد منها، بعضها من الشمال يدمي ويقتل، وآخر من الجنوب يخيف ويرعب، ولكنهما كلاهما، في فلسطين ولبنان، أدركا أن هذه هي المعادلة، فلا شئ اسمه الاحتفاظ بحق الرد، في الوقت والزمان المناسبين، وإنما هو ردٌ فوريٌ آنيٌ موجعٌ ومؤلم، أما المكان فحيث تصل صورايخ المقاومة، حسب مداها المجدي والقاتل، المهم أنها تصل وتصيب، وتقتل وتخرب وتدمر، وتخيف وترعب وترهب، فتبرد قلوبنا، وترسم البسمة على شفاهنا، وتعيد الأمل إلى نفوسنا وكل أجيالنا، فبهذا في كل زمانٍ ومكان، لن تضرب إسرائيل وتهرب، ولن تصيب وتفرح، بل ستخيب وتهرب، وستبكى وتدمع.