الأرضُ ثابتةٌ لا تدور؟!
د. محمد عناد سليمان
لقد أثار ما قاله أحد العلماءُ في «المملكة العربيَّة السُّعوديَّة» جدلا واسعًا، عندما قرَّر أنَّ «الأرض» ثابتة، لا تدور، بخلاف ما عليه أهل العلم والاختصاص في «الفلك»، وانقسم النَّاس بين مؤيِّدٍ، يدفعه إلى ذلك في غالب الظَّنِّ الدِّفاعُ المستميتُ عن أهل العلم ممَّا ينتمي إليه طائفيًّا، أو مذهبيًّا، أو نكاية بمن يخالفه، أي: المخالفة لمجرَّد المخالفة، وبين معارض له يدفعه أيضًا في غالب الظَّنِّ الولوج في باب الطَّعن الذي درج عليه كثيرٌ ممَّن يبحث عن مواضع المثالب والهنات طائفيًّا، ومذهبيًّا أيضًا.
لكن قليلٌ ممَّن حاول أن يبحث عن مبرِّرات التَّأييد، أو الرَّفض والتَّفنيد معتمدًا على الأسلوب العلميّ في ذلك، فالقول بأنَّ «الأرض ثابتة لا تدور» ليست وليدة عصرها، أو بدأت مع قول هذا القائل؛ بل هي مسألة تطرَّق إليها العلماء السَّابقون، ولعلَّ ما جعل منها قضيَّة كُبرى إلباسها رداءً دينيًّا، وإن كانت لا تخرج عن إطاره وميدانه، وهو ما نجده عند بعض الباحثين إذ يقول: «فإنَّه لما كثر النِّقاش والجدال حول دوران الشّمس وثبوت الأرض، وأنكر هذا كثير من المتثقفين الذين يدّعون الثّقافة، مستندين في ذلك إلى الفلكيّين الذين أشبهوا المنجّمين فيبعض المسائل، وجعلوا كتاب الله، وسنَّة رسوله e وراء ظهورهم فأخذوا بأقوال هؤلاء الفلكيّين من النَّظريات المصادمة للأدلَّة، وتعامواعن الآيات والأحاديث لاسيّما وقد قرَّروا بعض هذ العقائد الفاسدة في المدارس، فصارت عقيدة راسخة عند طلاب المدارس من الصّعْب إقناعهم إلا أن يشاء الله».
ولمَّا كانَ القول صادرًا عن عالم دينٍ كما يدَّعي قائله، وكان الرَّدُّ عليه مرتديًّا رداء «الدِّين» أيضًا رأيتُ أنَّ أتطرَّقَ إلى عرضها من الباب الدِّينيّ نفسه، من خلال ما قاله «المفسِّرون» وبعض أهل العلم المتأخِّرين في ذلك، وجعلوها أدلَّة على ثبوت الأرض وسكونها، فـ«ابن كثير» عند تفسيره لقوله تعالى:] أَمْ مَنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا[ النَّمل : 61، قال: «أي: قارَّة ساكنة ثابتة، لا تميدُ ولا تتحرَّك بأهلها، ولا ترتجف بهم، فإنَّها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة؛ بل جعلها من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرَّك». وقال عند تفسيره لقوله تعالى:]أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا[ النَّبأ: 6-7: «أي: ممهّدة للخلائق، ذَلُولا لهم، قارّةً ساكنة ثابتة (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها، وثبَّتها، وقرّرها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها».
لكن ما يدعو للعجب حقًّا ما يقرِّره بعض العلماء، ويفتعلونه من أحكام تأخذ صفة «الإجماع» عندهم، وما هي في حقيقتها إلا اختلاق من عند أنفسهم، فـ«عبد القاهر البغدادي تـ429ه»ـ،في كتابه «الفَرْق بين الفِرق» يقول: «وأجمعوا على وقوف الأرض وسكونها،وأنَّ حركتها إنَّما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها، خلاف قول من زعم من الدَّهريَّة أنَّ الأرض تهوي أبدًا، ولو كانت كذلك لوجب ألا يلحق الحجر الذي نلقيه من أيدينا الأرض أبدًا؛ لأنَّ الخفيف لا يلحق ما هو أثقل منه في الانحدار». وهو يقصد بـ«الإجماع» كما ذهب إليه بعض الباحثين: «إجماع أهل السُّنَّة» إذ قال: «أجمع أهلُ السُّنَّة على أنَّها ساكنة وثابتة، هذا هو الذي عليه أهل السُّنَّة والجماعة». بينما نجدُ «القرطبيَّ» قد أضاف إليه إجماع «أهل الكتاب» كما يظهر من قوله: «والذي عليه المسلمون وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض وسكونها ومدِّها، وأنَّ حركتها إنَّما تكون في العادة بزلزلة تصيبها»
بل وصل الأمر ببعض أهل العلم المعاصرين أن يتجاوز الخلاف كلَّه، وأن يثبت رأيًا واحدًا، ويحكمُ بالكفر على من يقول برأي مخالف، يظهر ذلك من خلال ما أورده «ابن باز» رحمه الله في كتابه «الأدلَّة النَّقليَّة الحسيَّة» فقال: «وقد نصَّ علماء التَّفسير رحمة الله عليهم كابن جرير، والبغويّ، وابن كثير، والقرطبيّ وغيرهم على ما دلَّت عليه الآيات المحكمات التي سبق ذكرها من جريان الشمس في فلكها طالعة وغاربة، وسكون الأرض واستقرارها، وهكذا علماء الإسلام المعروفون المعتمد عليهم في هذا الباب وغيره، قد صرَّحوا بما دلَّ عليه القرآن الكريم من كون الشمس والقمر جاريين سائرين في فلكهما على التَّنظيم الذي نظمه الله لهما، وأنَّ الأرض قارَّة ساكنة قد أرساها الله بالجبال، وجعلها أوتادًا لها»، فالأرض كما يظهر من قوله ثابتة ساكنة، وهو يجري في ذلك على سنَن من سبقه ممَّن قال بذلك، ومن يرى غير ذلك فقد «قال كفرًا وضلالا» كما نصَّ عليه «ابن باز» والسَّببُ في ذلك كما يبيِّنه أنَّه «تكذيب لله، وتكذيب للقرآن، وتكذيب للرَّسول صلى الله عليه وسلم»، ولا شكَّ أنَّه لا يقصد تكفير من قال بثبوت الأرض؛ لأنَّه كما قال: «خطأ ظاهر مخالف للآيات المتقدمات»؛ لكنَّه يشير إلى من ذهب مذهب تكفير من يقول بذلك، فقال: « وفي تكفير قائله نظر»، والعلَّة في ذلك كما يراها أنَّ «الأدلَّة الواردة في ثبوت الأرض وسكونها وعدم دورانها ليست في الصَّراحة كالأدلَّة الواردة في جريان الشَّمس، وعدم سكونها، ولأنَّ القائلين بدوران الأرض قد أوردوا شُبهات توجب التّوقُّف عن كفْر من قال بذلك».
ولعلَّ هذا التَّشديد هو الذي دفع بالعالم الذي سلَّطت مواقع «التَّواصل الاجتماعيّ» الضّوء عليه إلى عدم امتلاك الجرأة ليخرجَ عمَّا قرَّره هؤلاء العلماء، ولم يُعمل عقله فيما وصله من أخبارهم وأحكامهم، ولن يكون الأوَّل أو الأخير؛ لأنَّ ثلَّة كثيرة من العرب ما زال يعيش حالة «تأجير» العقل، ويرى بعين غيره، ويسمع بأذنهم.
ومن أجمل ما وقعتُ عليه في القول في هذه المسألة ما سطَّرته يدا «محمَّد محيي الدِّين عبد الحميد» إذ قال في حاشية له يردُّ فيها على مَن قال بسكون الأرض: «قد ثبتَ بأدلَّة علميَّة أنَّ الأرض تدور، وليس في القرآن ولا في السُّنَّة الصَّحيحة نصٌّ صريح قاطع لا يقبل التَّأويل يدلُّ على أنَّها ليست تدور، وهذه القضايا التي يذكرها المؤلِّف في هذه المسألة ما ورد بها كتاب ولا سنَّة، وإنَّما هي أقوال لبعض أهل النَّظر يبطلها نظر مثل النَّظر الذي يثبتها، وليس في إثباتها ما يخالف عقيدة الإسلام لا في جملتها ولا في تفاصيلها، لهذا كان القول الحقُّ في هذه المسألة هو ما تقوم على تأييده أدلَّة العلم الصَّحيحة، وإن خالفت المتعارف المشهور من أقوال الفلاسفة المتقدِّمين، فأمَّا القرآن والسُّنَّة فإن ورد فيها أو في أحدهما نصٌّ صريح قاطع لا يقبل التَّأويل في مسألة من المسائل الكونيَّة أخذنا به، واعتقدنا مع ذلك أنَّه هو الحقُّ والصَّواب، ومحال أن يجيء نصٌّ فيهما أو في أحدهما يخالف ما ثبت ثبوتًا قاطعًا بأدلَّة العقل، إذ لا يتصوَّرُ من له أدنى مسكة من التَّفكير أنَّ الدِّين الذي حفظ للعقل مكانته وأمر باستعماله في أدقِّ مسائله وندَّد بمن يهمله أو يجري في حياته على خلاف مقتضاه، محال أن يأتي في الدِّين شيء يخالف مقتضى العقول، نعم المسائل الكونيَّة التي لم ينتهِ العلماء من بحثها ولم يصلوا فيها إلى أمر قاطع وإنَّما يكون ما وصلوا إليه آراء ظنيَّة، وأفكارًا يحتمل أن تثبت كما يحتمل أن يقوم الدَّليل على صحَّتها، هذه الآراء التي يتعيَّن على علماء الدِّين ألا يبتُّوا فيها برأي ثم ينسبوه إلى الدِّين، ومن تفاهة التَّفكير أن يبدو لأحد العلماء رأيٌ في مسألة من هذا النَّوع فينطلق رجال الدِّين يؤولون فيما بين أيديهم من النَّصوص لتطابق هذا الرأي قبل أن يثبتَ بقواطع الأدلَّة».
ونحنُ في الوقت نفسه لا نقلِّلُ من شأن العلماء السَّابقين، وما وصلوا إليه من أحكام، واستنباطات، واستنتاجات؛ بل نثمِّنُ لهم جهدهم في ذلك، ولا نغفل ظروف عصرهم التي عاشوها والتي كان لها الأثر الأكبر فيما وصلوا إليه، ولا نطالبهم بأن تكون أحكامهم مطابقة لظروف عصرنا، فالواقع الحسيّ والملموس الذي عاشوه، والإدراك العقليّ الذي كانوا عليه أنتجَ لهم معرفةً قد يصيبون فيها وقد يخطئون، ونحنُ نأخذ ما أصابوا فيه، ونترك ما جانبهم الصَّواب فيه؛ لأنَّ العالم هو ابن بيئته وثقافته وظروف عصره، فـ«الخليل بن أحمد الفراهيديّ» قد صنَّف معجمه «العين» على ترتيب مخارج الحروف، وكان يرى على حسب مقتضيات عصره أنَّ حرف «العين» هو أدخلُ المخارج، فصنَّف كتابه بناءً على ذلك، بينما أثبتَ المتأخِّرون والمعاصرون أنَّ «العين» ليست هي أدخل المخارج، بل يسبقها في ذلك «الهمزة» و«الهاء» ولا يعني ذلك بحال من الأحوال «الطَّعن» فيما وصل إليه «الخليل»، بل هو من باب التَّطوَّر العلميّ الذي سيبقى مفتوحًا إلى أن يشاء الله.
لكنَّ العقبةَ الحقيقة تكمنُ فيمن يحاول أن يفرضَ علينا نتائجهم عامَّة، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، والتي قد لا تتناسب مع ظروف عصرنا ومقتضيات زماننا، والله تعالى أعلم.