هل البوطي شهيد؟
هل البوطي شهيد؟
د. نعيم محمد عبد الغني
قتل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في سوريا في ليلة الجمعة بمسجد الإيمان وهو يلقي درسه المعتاد، وهذه الحادثة جعلت الناس في حيرة من أمرهم، هل البوطي شهيد؟ أم أنه غير ذلك لأنه أيد بشار وأحل دم الثوار؟
والحق أن مصطلح الشهادة يقترن عند المسلمين، دوما بالحروب وأصبح مستخدما على ألسنة الناس بكثرة، حتى درجت بعض وسائل الإعلام على إطلاقه عند فئة معينة وعدم إطلاقه عند فئة أخرى، فهناك كثير من القنوات كانت تقول (الشهداء الفلسطينيون)، وآخرون يقولون (القتلى الفلسطينيون)، وفي العراق اختلط الحابل بالنابل والعاطل بالباطل، واختلط مفهوم المقاومة بالإرهاب، والشهادة بالقتل، وكذا الأمر في مصر الثورجي اختلط بالبلطجي، وفي سوريا تأشب الشبيح بالثائر المدافع عن أرضه وعرضه.
ونحن في ظروف استثنائية يعلب فيها كل طرف على وتر الدين والشهادة، وهذه أزمة في المصطلح تعاني منها كل شعوب الأرض وليست أمتنا الإسلامية فقط.
إذا فنحن أمام مشكلة حول مصطلح الشهادة أو الاستشهاد، ونحتاج إلى إعادة فهمه من خلال الضوابط التي حددتها الشريعة الإسلامية لمصطلح الشهادة، وأول ما يلفت النظر في هذه المعالجة لهذا المصطلح ما قاله البخاري في كتاب الجهاد والسير: «باب لا يقول فلان شهيد» حيث ذكر قصة عن سهل بن سعد رضي الله عنه يقول فيها: «التقى هو والمشركون، فاقتتلوا فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم أنا صاحبه، قال فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه، قال فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال وما ذاك؟ قال الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك، فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه ثم جرح جرحا شديداً، فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة.
فهذه الحادثة توضح أن الله عليم بمن يأخذهم شهداء، فليس كل من ذهب إلى ساحة القتال ومات فيها من المسلمين يكون شهيداً، بل الأمر يتعلق بمدى قربه من الله وإخلاصه له والحديث الذي يرويه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه الذي يتحدث عن أول ثلاثة تسعر بهم النار ذكر فيه رجل استشهد، قال أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت؛ لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار».
وفي الصحيحين عن أبي موسى أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
فهذا الحديث يؤكد على مسألة الإخلاص التي هي سر بين العبد وربه، ومن ثم فلقب شهيد لا نستطيع أن نطلقه على أي أحد؛ لأن الله عليم بذات الصدور، وهذا ما علّمنا إياه القرآن في لفته الرائعة التي تحدث فيها عن غزوة أحد فقال: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).
فهذه الإشارة وغيرها من آيات الجهاد تتحدث عن الإخلاص في القتال، وأن المجاهد يخرج في سبيل الله، وجاءت هذه الآية لتقول، ويتخذ منكم شهداء، ومن تفيد التبعيض، وجاءت شهداء نكرة، لتفيد أن الشهيد وحده هو المعلوم. نعم حددت لنا نصوص أن من مات في قتال الكفار يكون شهيدا، ومن مات غريقا أو مبطونا أو سقط عليه جدار فهو شهيد ففي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله». رواه ابن ماجه وأبو داود وغيرهما من حديث جابر بن عتيك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد
والمبطون كما يقول النووي: هو صاحب داء البطن، وهو الإسهال. وقال القاضي: وقيل: هو الذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن. وقيل: هو الذي تشتكي بطنه. وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقًا.
وقوله: المرأة تموت بجُمع شهيد. أي تموت وفي بطنها ولد، فإنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل وهو الحمل. وقيل: هي التي تموت بكرًا. والأول أشهر كما قال ابن حجر في فتح الباري.
ولن نتطرق إلى خلاف العلماء حول تحديد عدد الشهداء، فبعض الروايات تقول: إنهم خمسة، وأخرى تذكر سبعة كما تبين، وبعضهم أوصلها عشرين، لكن نقول إن من كانت هذه صفته ولم يكن عاصيا لله، ومات على طاعة الله فحكمه عند الله شهيدا، قال السبكي عندما سئل عن الشهادة وحقيقتها. قال: «إنها حالة شريفة تحصل للعبد عند الموت لها سبب وشرط ونتيجة».
ومن كلام السبكي يمكن أن نقول: إننا لا نستطيع أن نجزم بشهادة أحد؛ لجهلنا بسريرته التي لا يعلمها إلا الله، وكذا عندما نقول المرحوم فلان، فنحن لا نعرف إن كان مرحوما أو مرجوما، وإنما هذا على سبيل الدعاء، فالمتحدث يرجو له الرحمة، وبالمثل عندما نقول الشهيد فلان لأنه مات مبطونا أو غريقا ...إلخ فإنه ينبغي أن يكون قصدنا أن ندعو الله بأن يكتبه مع الشهداء الذين تجلت لنا الصفات الظاهرية لهم، وخفيت عنا علاقتهم بينهم وبين الله.
نخلص من ذلك كله إلى أن قولنا الشهيد فلان أنها على سبيل الدعاء، وليست على سبيل الحكم والجزم والقطع، والتعيين لشخص بعينه، ومن ثم فلغة الإعلام في توظيف هذا المصطلح ينبغي أن تأتي من هذا المنطلق، وأن يتنبه الناس إلى ذلك، فنحن عندما نقول شهداء غزة، فإننا نقصد أن ندعو الله أن يكتبهم عنده في الشهداء والصالحين. وكذا عندما نتكلم عن شهداء العراق وأفغانستان وغيرهم من الذين يقاتلون مغتصبي الأرض والعرض، فمن قاتل دون ماله فهو شهيد، ومن قاتل دون عرضه فهو شهيد على المعنى المحدد سلفا من غير تعيين شخص بعينه، وإطلاق لفظ الشهادة عليه.