ثورات شعبية وليست انقلابات.. فلماذا التخوف؟!
ياسر الزعاترة
بوسع الإسلاميين أن يسردوا الكثير من الوقائع على ديكتاتورية النماذج العلمانية والقومية واليسارية في المنطقة العربية، وهي نماذج بائسة بامتياز، جمعت الديكتاتورية مع الفساد، وهما يجتمعان في أغلب الأحيان. وبوسع الأطراف الأخرى أن تشير إلى نماذج إسلامية مماثلة تنطوي على قدر من البؤس يتفاوت بين تجربة وأخرى، من إيران إلى السودان، وربما أضافوا طالبان أيضا، مع أن من خلفوها في السلطة لم يختلفوا كثيرا، الأمر الذي له صلة بالمجتمع الأفغاني وبنيته الدينية والقبلية والاجتماعية.
نذكر بهذا الأمر لأن هناك من لم يتوقف -كما كان يفعل منذ ثلاثة عقود- عن ترديد ذات المقولات عن الإسلاميين، وميلهم إلى ديمقراطية (مرة واحدة)، ومن ثم الانقلاب عليها، ما يذكرنا بانحياز كثير منهم لانقلاب العسكر في الجزائر على الخيار الديمقراطي، مستشهدين بمقولة خطيب جمعة هامشي حول شطب الديمقراطية بعد الفوز، ومتجاهلين في الآن نفسه تأكيدات قادة جبهة الإنقاذ على قبولهم بالتعددية، مع أننا لم نكن لنأمن الوضع التالي في ظروف التسعينيات، أعني ممارسات الجبهة التالية نظرا لاختلاف الظروف على نحو من الأنحاء.
اليوم يبدو المشهد مختلفا إلى حد كبير، فهذه الثورات لها ظروفها الموضوعية المختلفة كليا عما سبقها من تجارب، أكانت ثورية كما هو الحال في إيران، أم انقلابية كما هو الحال في السودان، أم سيطرة مسلحة تدريجية كما كان الحال في أفغانستان.
الربيع العربي حكاية مختلفة، فهو يعبر عن ثورة سياسية واجتماعية عنوانها الحرية والتعددية، كانت الطبقة الوسطى هي عمادها الأساسي، وهي وإن انحازت تاليا في الانتخابات للقوى الإسلامية فإن ذلك لا يعني قبولا بما تفعله تلك القوى بصرف النظر عن تفاصيله ومضمونه.
هي ثورة عنوانها الحرية والتعددية في ظل ثورة إعلامية ووعي متقدم لن يسمح لأي طرف مهما كان ومهما قدم من شعارات أن يستحوذ على السلطة بغير رضا الشعب، كما أن فوزه لا يمنحه تزكية لأكثر من أربع سنوات سيعرض نفسه بعدها على الشعب من جديد، وقد يختارونه وقد يختارون سواه، وقد يترددون بينه وبين خيارات أخرى. من العبث والحالة هذه الحديث عن ديكتاتورية مقبلة بثوب إسلامي؛ لأن الجماهير لن تقبل بذلك، بمن فيها قطاع عريض من المتدينين الذين لم يعودوا يرون الدين والتدين حكرا على قوى ما يسمى الإسلام السياسي، كما أنهم لا يرونه بديلا عن الحرية والتعددية وخدمة الناس بأفضل السبل الممكنة.
إن ميل أية قوة إسلامية إلى خيار استعادة الديكتاتورية سيصطدم من دون شك بخيارات الجماهير التي ترفض استعادة الوضع القديم تحت أي شعار كان، وهي تريد أن يكون القرار لها وحدها في تحديد من يحكمها ويدير شؤونها.
نقول ذلك رغم أننا لا نفسر ألبتة ما جرى ويجري من فزعات سياسية في مصر وتونس وسواها بخوف أصحابها من ديكتاتورية الإسلاميين، بقدر ما نفسره باستكثار تلك القوى على الإسلاميين أن يتصدروا المشهد السياسي، ويملك بعضها قابلية التحالف مع الشيطان للانقلاب عليها، فضلا عن استعادة الوضع القديم، أو استدعاء العسكر.
من المؤكد أن هذا الوضع الجديد لا يصب فقط في خدمة الشعوب التي ستبقى صاحبة الولاية على حكامها، بل سيصب أيضا في صالح الإسلاميين الذين سيكون عليهم الاستماع إلى نبض الجماهير بشكل دائم، ويدركون تبعا لذلك أن الشعار الإسلامي ليس قابلا للتسويق إذا لم يلتحم بقضايا العدل والحرية ونبذ الفساد، وها هو النموذج السوداني فضلا عن الإيراني شاهد حي على ذلك، ولو جرت انتخابات حرة ونزيهة في البلدين فإن خسارة النخبة الحاكمة فيهما ستكون مؤكدة.
على الجميع والحالة هذه أن يقبلوا بحكم الصناديق، وأن يدركوا حقيقة أن التنافس الحقيقي ينبغي أن يكون على خدمة الناس وكسب ثقتهم، ومن يعتقد أنه يكسب ثقة الناس بالكذب والتزوير سيكون واهما من دون شك، ولو آمن الشارع المصري أن الدستور الذي عرض عليه هو محطة للديكتاتورية لما صوت له بنعم، مع أن الآخرين لم يصوتوا بلا إلا في ظل حشد سياسي لا صلة له ألبتة بمضمون الدستور نفسه.
نعود إلى القول إننا إزاء مخاض تاريخي في هذه المنطقة، وهو مخاض سيفضي إلى ممارسة سياسية تعلي من قيمة الحرية والتعددية، ولا تسمح بنشوء ديكتاتوريات مهما كان الثوب الذي تلبسه.