لعبة الأمم.. المتحدة.. في سوريا
سمير شيشكلي
في اجتماع للمعارضة مع الأخضر الإبراهيمي في الأمم المتحدة بنيويورك منذ نحو شهرين قال لنا المندوب الدولي بصراحة متناهية "لا تتوقعوا أي تغيير في المواقف الدولية المعطلة". في ذلك الاجتماع، تبجّح أحد المعارضين قائلاً: "ولكن معلوماتي تختلف عن ذلك فقد أخبرني فلان الفلاني المسؤول في الحكومة الأمريكية بأن الأمريكان سيتدخلون عسكرياً بعد الانتخابات." وهنا ثارت ثائرة الإبراهيمي وندد بجهل المعارضين ببواطن الأمور وبتمسكهم بالأوهام. كان يحاول أن يقنعنا بجدوى اتفاق جنيف و بوجوب استخلاص أقصى ما يمكن منه "نظراً لأنكم لن تستطيعوا الحسم عسكرياً"... بمعنى آخر: إن كنتم قادرين على الحسم ، تفضلوا لنرى ما يمكنكم فعله. وإلا فإن الحل "الوحيد" هو التفاوض مع النظام!!! وبالطبع، كان موقفنا رافضاً لهذا المنطق.
على أن فكرة استحالة الحسم العسكري، سواء لصالح الثورة أو لصالح الحكم، باتت موقفاً سياسياً دولياً هو سيد الموقف لدى حلفاء النظام من الإيرانيين والروس وحزب الله، بل وحتى أعوانه من قبيل فاروق الشرع، وكذلك لدى ممثلي المعارضة الداخلية الرسمية التي تنادي بالحل السلمي وتضع ثقتها في الروس وإيران، بل بات بعض "أصدقاء الشعب السوري" سواء من الغربيين أو من العرب يروّجون لها بأشكال مختلفة منها ما يقوله السفير الأمريكي روبرت فورد من أن الحسم الآن مستحيل وإن كان لا يستثني وقوعه في المستقبل، فهو يدعو للحل التفاوضي الآن بدلاً من انتظار تحقق الحسم على الأرض بعد آلاف مؤلفة أخرى من الضحايا.
بنفس الاتجاه ينصب الضجيج الذي أثارته الأمم المتحدة خلال الأسبوع الماضي حول حقوق الأقليات واحتمال وقوع جريمة الإبادة في حقهم، إذا تم الحسم لصالح الثورة، خصوصاً في التقريرين الصادرين عن لجنة التحقيق الأممية وعن مستشار مكافحة جريمة الإبادة، فهذا الضجيج جزء من حملات التهويش الإعلامي على المعارضة السورية باتجاه الضغط لقبول تسوية ما مع النظام، الأمر الذي تعتبره الثورة والمعارضة من المحرمات.
وكما يقول الروس (وهو حق يراد به باطل) فإن الأمم المتحدة، فلسفياً، ليست مهمتها تغيير نظم الحكم. فمهمة حفظ السلام المقدسة لدى المنظمة الدولية تقتصر على حفظ الأرواح ومنع تجدد الاقتتال والمضي بالعملية السلمية بقدر ما يسمح به توازن القوى الفعلي على الأرض. وهذا ما شاهدناه في جميع عمليات حفظ السلام الأممية خلال ما يزيد على نصف قرن من الزمان. ولن تكون سوريا بالنسبة للأمم المتحدة مختلفة في هذا الشأن. فالحق أن الأمم المتحدة لا تعطي أولوية لتنحي الأسد أو لتغيير النظام أو لإقامة الديمقراطية أو حتى لحقوق الإنسان فهذا كله يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة. الأمميون ليسوا ثوريين بل موظفين بيروقراطيين الأولوية الآولى لديهم هي إراحتهم بوقف القتل، حتى وإن كان ثمن ذلك إعادة الثورة السورية إلى المربع الأول. وقد دأبتُ على التأكيد للأخوة في المعارضة منذ البداية على أن اللجوء إلى الأمم المتحدة لن يفيد الثورة السورية.
من هنا فإن أكثر ما يمكن للإبراهيمي أن يقدمه، على ضوء تصور الأمم المتحدة لتوازن القوى الفعلي على الأرض، هو السعي لوقف القتل اليومي مع الإبقاء على النظام وإنْ بعد بعض التجميل. أما تفاصيل "هذا الحل على الطريقة اليمنية" ومسائل من قبيل خروج الأسد أو عدمه وبقاء السلطة الفعلية وحجم الوجود الأمني المخابراتي في تركيبة النظام المجدد وشكل الحكم المدني والحكومة المؤقتة العتيدة وصلاحياتها "الكاملة" أو "الموسعة" فهذه كلها جزئيات تبقى للتفاوض والأخذ والعطاء. ما يطلبه الأمميون هو قبول حل مؤقت تشاوري يبقي على النظام بشكل من الأشكال (جنيف 2 أو جنيف 3 إن شئت)،ويكون حفظ السلام جزءاً منه، ويجري الاتفاق عليه عبر مفاوضات برعاية روسية وغربية مشتركة يتم بعدها اتخاذ قرار في مجلس الأمن يغطي بالسكر ما تم الاتفاق عليه مجيزاً نشر قوة أمم متحدة كبرى لحفظ السلام ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوريا. وليس المقصود بالطبع أن يكون الحل دائماً، فالأمم المتحدة تقبل دوماً بحلول ذات طابع مؤقت حتى وإن كانت حلولها في الوقت نفسه غير محددة بزمن. فالحلول "الأممية المؤقتة" قد تستمر سنة أو اثنتين أو عقداً أو عقدين بدون غالب ولا مغلوب. وبعدها يحلها الحلال.
هل سيقبل الأطراف بحل كهذا؟
بالنسبة للنظام فإن قبوله مرجح نظراً لتراجعه ميدانياً ولثـقته بالروس وبضماناتهم السرية بعدم إحداث تغيير جذري. وكل المؤشرات تفيد بأنه أعطى الإبراهيمي ضوءاً أخضر لمتابعة مفاوضاته في هذا الاتجاه. ويبدو بالفعل أن الأسد قبل "مبدئياً" نوعاً من الحل السياسي لم تعرف دقائقه بعد برغم كل التسريبات. ولهذا السبب بالذات أوفد إلى روسيا نائب وزير الخارجية فيصل مقداد والمخابراتي في الوزارة أحمد عرنوس بقصد التماس الضمانات من الروس عشية وصول الإبراهيمي إلى موسكو (السبت).
أما بالنسبة للثورة فإن تخطيط الإبراهيمي يستند إلى التعامل بشكل "اسمي" مع المعارضة السياسية الخارجية المتمثلة في الائتلاف ومكوناته، مع إعطاء الأولوية الحقيقية للتعامل فعلاً مع القوى الداخلية. ويرى الإبراهيمي أن هذه القوى ممثلة من جهة بالمعارضة الداخلية الرسمية التي يمكن للنظام أن يتعايش معها (وهي على نوعين معارضة "موالية" اصطنعها النظام من أمثال قدري جميل وعلي حيدر، ومعارضة تقليدية تمثلها قيادات هيئة التنسيق من قبيل حسن عبد العظيم ورجاء الناصر وهي معارضة لم يعد لها من الوجود والمصداقية إلا ما يمنحها إياه النظام والإبراهيمي). على أن هذه القوى الداخلية ممثلة أيضاً بالتنسيقيات وبالجيش الحر: وحسب التقديرات الإبراهيمية فإن دور التنسيقيات السلمي محمول ومحدود ولن يشكل صعوبة حقيقية أمامه، وأما الجيش الحر فإن من الممكن شق صفوفه من خلال التعامل المباشر معه والضغط عليه وهو ما يفعله الأمريكان منذ وقت وما يفعله الإبراهيمي منذ أشهر. وقد بات المندوب الدولي واثقاً بأن تكتيكاً كهذا سيمكــّنه من سحب البساط من تحت أقدام المعارضة الخارجية التي بقيت "غير مرنة" على الرغم من إحلال الائتلاف محل المجلس الوطني. ولهذا بالذات فإن الإبراهيمي، بموافقة الأسد، بقي هذا الأسبوع في دمشق ليواصل مفاوضاته مع المعارضة الداخلية الرسمية ومحاولاته "تفكيك" موقف الجيش الحر الرافض مبدئياً لأي حل يُـبقي على الأسد أو على جزء أساسي من نظامه.
وماذا عن الموقف الروسي؟ هل تغير؟ باختصار "لا". المطلوب من المعارضة ألا تقع في الفخ الروسي مجدداً. المطلوب ألا نسمع ما يقوله الوزير لافروف يل أن نرى ما تقترفه الأسلحة الروسية الجديدة على الأرض السورية وما ترتكبه طائراتهم في الأجواء السورية وما تفعله بوارجهم في مياهنا الإقليمية. وليست الدعوة الروسية التي صدرت اليوم اليوم إلى الاجتماع بالائتلاف دون إعطائه أي تنازل فعلي إلا مواصلة للموقف الروسي الذي اعتدنا عليه منذ اندلاع الثورة.
ماذا لو بقيت المعارضة الخارجية على عنادها ورفضها؟ في هذه الحالة، حسب لعبة الأمم المتحدة، فإنالقافلة الأممية ستمضي بدونها، وهو أمر سيباركه النظام والروس والإيرانيون دون شك. وأما الشعب الثائر فحسـبُـه وقف القتل (وإن جزئياً) وحسـبُـه جوائز الترضية من قبيل التغييرات التجميلية، وسيتم إلهاؤه بمسائل إطلاق سراح المعتقلين (أو بقاياهم) وإعادة اللاجئين والنازحين والاشتغال بالشؤون المعيشية والبلدية.
إن قوة المعارضة الحقيقية تكمن في تصلبها وثباتها على موقفها الرافض فعلاً لحل أممي تضمنه روسيا يـُـبقي على النظام ويجعل منها ومن إيران جزءاً من مستقبل سوريا. لا يكفي أن يردد قادة الائتلاف أنهم لن يقبلوا إلا برحيل الأسد ورموزه ولن يلتقوا مع الروس، فالهجمة الأممية اليوم بلغت أقصى قوتها. ولعل صمام الأمان بالنسبة للائتلاف بل وللثورة السورية ككل إنما يكمن في إجراءات ملموسة تقوم بها المعارضة الخارجية على الأرض وتحقق التوحد العضوي بينها وبين الثورة في الداخل وتيسر سبل الدعم الحقيقي للجيش الحر، وهو الأمل الوحيد، لتمكينه من متابعة تقدمه على الأرض برغم المحاولات العالمية لتجفيف منابع الدعم له. أما إذا فشلنا في ذلك فإن الخطة الإبراهيمية التي يدعمها حلفاء النظام بقوة ويساندها الغرب بصمت ستستمر على النحو المطروح. وسيكون الثمن الذي سندفعه نحن معشر السوريين باهظاً.