الدولة العلوية والدولة العبرية هل هما غاية أم وسيلة؟
الدولة العلوية والدولة العبرية
هل هما غاية أم وسيلة؟
طريف يوسف آغا
حتى نجيب على هذا السؤال فلا بد أولاً أن نعود إلى التاريخ ونرى الأسباب التي أدت إليهما والجهات التي أخرجتهما إلى الحياة.
لم يكن اليهود يوماً مرحباً بهم خارج الدول العربية، فقد نظرت لهم شعوب العالم، وخاصة الأوربية، كأجانب من عرق غريب أتوا إلى بلادهم للتحكم في رؤوس الأموال وبالتالي بالاقتصاد. وأفضل مثال على ذلك شخصية المرابي (شيلوك) في مسرحية شكسبير الشهيرة (تاجر البندقية). وقد ذكر التاريخ أنهم تعرضوا لمذابح في روسيا في عهد القياصرة وكذلك في اسبانيا في عهد محاكم التفتيش وحتى في فلسطين على يد الحملات الصليبية. وقد ازدادت الكراهية لهم بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر حيث ازدادت رؤوس الأموال وازداد معها تحكمهم بالشعوب والحكومات الأوربية. وهنا ولدت الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر لتعمل على إنشاء وطن قومي لليهود بعد أن باتوا يشعرون بزيادة الكراهية لهم وبالتالي اقتراب تعرضهم لمجازر انتقامية بشكل تطهير عرقي.
ولم تكن بريطانيا العظمى تختلف عن بقية الدول الأوربية في هذا السياق، فهي أيضاً كانت تتمنى، كما تمنى (هتلر) فيما بعد، لو أن الأرض تنشق وتبتلع اليهود ليتخلصوا منهم ومن تحكمهم بهم. إلا أن البريطانيين، وبتفكيرهم الذي يميزهم عن بقية أقرانهم الأوربيين من حيث المكر والخبث والتخطيط البعيد، رؤوا بأن انشقاق الأرض وابتلاعها لليهود سيفيدهم مرة واحدة بتخليصهم منهم. أما تحالفهم معهم ومنحهم وطناً قومياً في قلب الوطن العربي في فلسطين، سيفيدهم مرتين أو حتى أكثر. فهو سيريحهم منهم أولاً وسيقضي على أحلام أعداء أوربا من العرب أن يتوحدوا ثانياً، وسيضمن لأوربا عميلاً يحمي مصالحها ثالثاً، وسيجعل عدويهما العرب واليهود يدخلان في صراع حتى الموت رابعاً، حيث سيكون من السهل القضاء على المنتصر في هذا الصراع إذا لم يفنيا بعضهما.
وبناء على هذا الحسابات، وضعت اتفاقية (سايكس بيكو) عام 1916 لترتيب تقسيم سورية الكبرى وفصل إقليم فلسطين عنها وجعله دولة قائمة بحد ذاتها ليتسنى منحها بعد ذلك لليهود بموجب (وعد بلفور) الذي صدر بعد ذلك بعام واحد في 1917. وهذا ماحصل، فبدأ تنفيذ خطة العمل هذه مع الانتداب البريطاني-فرنسي للمنطقة عام 1920لتخرج (الدولة العبرية) إلى الوجود عام 1948 ثم وصلت إلى ماوصلت إليه اليوم. وهكذا نرى أن هذه الدولة ليست (غاية) بحد ذاتها، وليست مهمتها لم شتات الشعب اليهودي لحمايته كما أعلن في حينه ولايزال يعلن اليوم، وإنما وسيلة لتحقيق عدة أهداف استعمارية حماية الشعب اليهودي على المدى البعيد ليست واحدة منها بل ضدها.
ولايختلف سيناريو (الدولة العلوية) كثيراً عن سيناريو شقيقتها (العبرية)، بل هو شديد الشبه به. فالفرقة التي انشق بها (ابن نصير) عن (الشيعة) في العراق في القرن التاسع الميلادي وأخذت اسمه، وجدت نفسها مكروهة ومكفرة من (الشيعة) قبل (السنة). والسبب الرئيسي لذلك كما ذكرت في مقال سابق هو ادعائه أنه (الرب) وإيمان أتباعه بذلك. فما كان أمامهم سوى الهروب والبحث عن مأوى لهم في مناطق جبلية عالية ولها منافذ بحرية يسهل الدفاع عنها أو الفرار منها، وهكذا ربما وصلوا إلى جبال الساحل السوري. وبسبب معتقداتهم الغرائبية الفريدة، وشعورهم بأن لاالسوريين ولاغيرهم سيرحب بهم، فقد رؤوا الابتعاد عن بقية شرائح المجتمع وعزل أنفسهم في رؤوس تلك الجبال. علماً بأن الشعب السوري ذي الأغلبية السنية قد عرف عبر التاريخ، وخاصة الحديث منه، بتسامحه وتساهله مع بقية الأقليات الأديان. وهذا ماجعل سورية ملاذاً آمناً للعديد من هؤلاء الذين، كالعلويين، هجروا بلادهم الأصلية بسبب الاضطهاد أو لأسباب مختلفة كالأرمن والشركس والشيشان وغيرهم.
وقد تمت الاستفادة من هذا الوضع الشاذ للعلويين (النصيريين) أولاً من قبل الصليبيين والمغول في القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، فاستغلوا مشاعرهم بالعزلة والكراهية وجندوهم لمساعدتهم ضد أبناء الوطن. وهم بالمقابل، وبسبب نظرتهم المحدودة وشعورهم بالاانتماء وعدم توفر قادة حكماء يقولون لهم أن هذا الآن هو وطنهم الجديد ويجب الدفاع عنه، وجدوا أنفسهم لكل هذه الأسباب وقد انضموا لمعسكر الغزاة المحتلين وساعدوهم. وتكرر نفس الشئ حين أتى الانتداب الفرنسي عام 1920 فساروا على نفس الطريق إلا قلة منهم. ولكن ماجعل تعاونهم مع الفرنسيين مختلفاً عن الماضي هو أن مشروع (الدولة العبرية) كان أيضاً قيد التخطيط والتنفيذ حينها. وكانت هناك حاجة لدولة مجاورة تقوم على حدود (الدولة العبرية) لتكون خط دفاع أول عنها لحمايتها. وكلنا نذكر (الوثيقة الفرنسية) التاريخية التي كشف النقاب عنها قبل أشهر والتي أبدى فيها بعض وجهاء العلويين أنفسهم، ومنهم (الأسد الجد)، تعاطفهم مع المشروع اليهودي في فلسطين. لا بل وقارنوا أنفسهم مع اليهود من حيث العدو المشترك لهما وهم العرب، وطالبوا، إسوة باليهود، بوطن قومي، عارضين بذلك أنفسهم ليلعبوا هذا الدور الآنف الذكر مقابل دولة مستقلة.
وماعاد مهماً أن فرنسا لم تخبرنا حتى اليوم ماذا كان ردها على تلك الوثيقة، فمن الواضح مما جرى لاحقاً أنها وعدتهم بكامل سورية كوطن لهم، وليس بالساحل فقط، فيكون بذلك لهم حدود مباشرة مع (الدولة العبرية) ويتمكنوا من حمايتها وتلبية حاجاتها. ومن الواضح أن الفرنسيين والبريطانيين لم يجدوا أفضل من أحد أحفاد الموقعين على الوثيقة إياها ليكون هو وأولاده الأمناء على تنفيذ تلك الخطة. فان نجح الرجل وأولاده من بعده بتلك المهمة فحسن، وإن فشلوا وسقطوا، فبالنسبة للغرب لا أسف عليهم، فدولتهم، كدولة أقرانهم العبرية، ليست (غاية) بحد ذاتها، بل (وسيلة).
وهنا أقول لو أن اليهود والعلويين على حد سواء احتفظوا بمعتقداتهم الدينية لأنفسهم، ووضعوا مصالحهم بحيث تتوافق مع مصالح الشعب الذي يعيشون على أرضه، ولو أنهم رفضوا أن يكونوا (وسيلة) في يد الغرب أو الشرق للعدوان على الأمة العربية واستعبادها، لكانوا أعادوا رسم خارطة سورية والوطن العربي بأكمله. ولكنهم، وفي غمرة سعادتهم بأن أصبح لهم دولة، يبدوا أنهم قد نسوا أن الغرب هو من وضع مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، و عادة ماترمى (الوسيلة) في القمامة بعد أن تؤدي (غايتها).