المرجعية الإسلامية وأزمة الدساتير ( 2 )
د.أحمد محمد كنعان
في أعقاب هجرته إلى المدينة المنورة سارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى عقد دستور بينه وبين أهل المدينة المنورة الذي رحبوا بمقدمه ترحيباً واسعاً دل دلالة جلية على قبولهم به رئيساً للدولة الوليدة ، وقد عرف ذلك الدستور باسم "صحيفة المدينة" ، وكان دستوراً تعاقدياً ، نَصَّ ضمناً على مفهوم "المواطنة" حين اعتبر كل من يقيم على أرض الدولة ـ من مسلمين وغير مسلمين ـ مواطنين متضامنين في الدفاع عن حدود الدولة ، متساوين في الحقوق والواجبات ، واعترف الدستور لكل طائفة منهم بالحق في اختيار أسلوب حياتها ، ولم يَحْمِل أحداً منهم على الإيمان بالدين الجديد ، وإنما ترك للناس حرية الاعتقاد عملاً بقوله تعالى (( وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ )) سورة الكهف 29 .
وقد نَصَّ الدستور كذلك على أنه لن يتدخل في شؤون أية طائفة من أهل المدينة إلا في حال الخلاف الذي يهدد أمن المجتمع ، كما جاء في خاتمة الصحيفة ( وَإنَّهُ ما كانَ بينَ أهلِ هذهِ الصَّحيفةِ مِنْ حَدَثٍ أو اشْتِجارٍ يُخافُ فسادُهُ فإنَّ مَرَدَّهُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وإلى مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ ) ، وبهذا حصرت الصحيفة الرجوع إلى النبي ( = المرجعية الدينية ) فقط في حال الخلاف إن وقع بين الأطراف التي توافقت على هذه الصحيفة ، وبهذا أصبحت المرجعية الدينية بمثابة "طوق النجاة" الذي يستخدم فقط عند الضرورة ، لا أن يحتكم الناس إلى هذه المرجعية في كل صغيرة وكبيرة ، لاسيما وأن أهل المدينة خليط من المسلمين وغير المسلمين .
وبناء على هذه القراءة للصحيفة يكون الأصل في تسيير أمور الدولة بالتشاور بين أهل الرأي (البرلمان ، مجلس الشعب ، مجلس الشورى ..) فيعرض كل منهم الرأي الذي يراه ، في حرية تامة ، فإذا اتفقوا على أمر أمضوه ، وإذا اختلفوا رجعوا إلى تلك "المرجعية" التي توافقوا عليها لتكون حَكَماً بينهم ، وبهذا تشكل "المرجعية" طوق النجاة الذي يمنع الشقاق والنزاع ، ويحول دون انهيار المجتمع .
ونحن نرى أن هذه "القراءة" لدستور المدينة يمكن أن تشكل حلاً عملياً للخلاف الحاد المحتدم اليوم بين الإسلاميين الذين يصرون على أن تنص الدساتير الجديدة على المرجعية الإسلامية ، وبين الداعين إلى "الدولة المدنية" الذين يرفضون ذلك ، فإذا سلمنا بهذه "القراءة" لدستور المدينة فإنه يبقى علينا أن نكيِّف هذا الحل فقهياً وقانونياً لإدراجه في دساتيرنا الجديدة ، على أمل أن تشكل هذه الخطوة حلاً عملياً يفك الاشتباك ويرضي طرفي المعادلة .
وبطبيعة الحال فإن هذه الخطوة تتطلب أولاً وقبل أي شيء آخر تعريف "المرجعية الإسلامية" التي هي موضع الخلاف ، وهي مرجعية تتكون في عرف الإسلاميين من "مصادر التشريع" التي تتمثل بنصوص القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية وقراءات الفقهاء لهذه النصوص ، بينما يرى الآخرون أن المرجعية الإسلامية ـ إن كان لابد من النص عليها في الدستور ـ فينبغي أن تنحصر في المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية ، لا في النصوص التفصيلية ولا في أقوال الفقهاء التي لا تكاد تجمع على مسألة من المسائل ، مما يجعل الاحتكام إليها سبباً وجيهاً للخلاف ، ومبرراً معتبراً لموقف الرافضين للمرجعية الإسلامية !
وهنا "مربط الفرس" كما يقولون ، فالإسلاميون الذين يعتبرون قراءات الفقهاء للنصوص هي "المرجعية" يقعون في مأزق الخيار ما بين قراءة وأخرى ، وبهذا يعطون الرافضين للمرجعية الإسلامية مبرراً قوياً لإقصاء هذه المرجعية عن الدساتير ، ونعتقد أن فك هذا الاشتباك بين الطرفين ممكن إذا أدرك الطرفان الفوارق الجوهرية بين ما هو سماوي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، صالح لكل زمان ومكان ، وبين ما هو قراءة بشرية قابلة للخطأ والصواب ، مناسبة لعصر دون عصر ، أو لحال دون حال .. ومن أجل فك هذا الاشتباك بين الطرفين نقترح حلاً عملياً يتلخص فيما يأتي :
1. اعتماد "المقاصد الكلية" للشريعة الإسلامية في دساتيرنا أصلاً ومصدراً أساسياً من مصادر التشريع ، واعتبار هذه المقاصد "خطوطاً حمراء" لا يصح تجاوزها بحال من الأحوال ، وهي كما نعلم تتلخص بحفظ الضرورت الخمس : الدين ، العقل ، النفس ، النسل ، والمال ، وهي نفس الضرورات التي نصت على حفظها القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية ، ما يجعل هذه المقاصد موضع قبول من مختلف الأطراف الإسلامية وغير الإسلامية .
2. الاستئناس ـ وليس الإلزام ـ بالثروة الفقهية العظيمة التي يذخر بها تراثنا الإسلامي ، وهي تتضمن الكثير من القواعد الدستورية والقانونية الراسخة التي كانت أساساً للعديد من قوانين العالم ، مثل القانون الفرنسي وغيره ، فنحن أحرى بهذه الثروة الفقهية من غيرنا ، ولكن دون إلزام أو التزام برأي فقهي معين ، بل يترك الأمر لأهل الرأي يختارون من هذه الثروة ما يرونه مناسباً لمقتضى الحال .
3. ولا يفوتنا أن هناك أسباب أخرى عديدة للخلاف على "المرجعية الإسلامية" حتى بين الإسلاميين أنفسهم ، منها "تصيد" لحظات تاريخية معينة من قبل بعض الإسلاميين واعتبارها "المرجعية" لفهم الدين ، وتجاهل لحظات أخرى قد تكون أكثر ملاءمة لعصرنا الحاضر ، وقد أشار القرآن الكريم إلى حل عملي واقعي لهذه الإشكالية بقوله تعالى : (( تِلكَ أمَّة قد خَلَتْ لها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُم ولا تُسألونَ عمَّا كانوا يَعملون )) سورة البقرة 134 ، فتجاهل التاريخ ـ القريب منه والبعيد ـ قد يكون في بعض الأحيان حلاً لكثير من إشكالياتنا ، لأنه يترك الساحة مفتوحة للاجتهاد ، دون إلزام بمثال نتوق إليه ولكن يصعب تحقيقه ضمن معطيات عصرنا ، وحتى نكون منصفين فإن هذه النظرة النرجسية إلى التاريخ .. إلى الماضي .. إلى الزمن الجميل .. لا ينفرد بها الإسلاميون وحدهم ، بل هي علة جميع الذين يتبنون عقائد سماوية أو أرضية أو سياسية ، بالرغم من أن الكل يعلمون أن ما مضى لا يمكن أن يعود .. مهما تعلقت به آمالنا وأحلامنا !
همسة أخيرة :
وتبقى كلمة أخيرة أتوجه بها إلى الحريصين على مستقبل هذه الأمة ، التواقين أن يبلغ هذا "الربيع العربي" أوج ازدهاره ، وأن ننعم ببعض ثمراته ، وهي دعوتنا للجميع أن يغادروا خنادقهم الإيديولوجية إلى رحابة العقل والعلم والواقع ، وأن يتخلوا عن نرجسية "الأنا" لصالح "النحن" ، وينطلقوا لتغيير واقع هذه الأمة لتلحق بركب العصر قبل أن يفوتها القطار ، فإن أخشى ما نخشاه أن يفوتنا القطار ، ونقف في المحطة ننتظر القطار التالي ، ناسين أو متجاهلين أو غافلين .. أنه .. لا قطار هناك !