بين الدستور الإلهي والوضعي
(مقاصد وأهداف)
حسام العيسوي إبراهيم
القرآن الكريم هو دستورنا الإلهي، أنزله الحق تبارك وتعالى لتسعد به البشرية في الدنيا، وتنعم بالفلاح به في الآخرة.
وضع الحق تبارك وتعالى في القرآن الكريم مقاصد وأهداف وغايات ينبغي أن يتعرف عليها الإنسان، ويعيش بها في حياته.
جعل الله- تبارك وتعالى- هذه المقاصد والأهداف والغايات في قرآنه إلى يوم القيامة، وجعلها خالدة إلى قيام الساعة، فالله أعلم بما خلق، وأدرى بما يصلح به عباده.
ومن سنن المعيشة على مر العصور: أن البشرية لا تستطيع أن تعيش بدون عقد اجتماعي، وميثاق بشري، يعيش به الإنسان مع إخوانه، ليكون بمثابة عهد بينه وبينهم، يحفظ به حياته، ويتعهد به على حفظ حياتهم.
فالله –تبارك وتعالى- في علاقته مع خلقه أخذ عليهم عهداً وميثاقاً أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، فيقول تعالى:" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين(172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون(173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون" [ الأعراف:174،173،172]، كذلك أخذ الله ميثاقه على رسله وأنبيائه بالتصديق بكتابه وبرسوله الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:" وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين(81) فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون"[ الأعراف: 81،82]، وقال تعالى:" وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً(7) ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً" [الأحزاب:7،8].
وعلى هذا الدرب والطريق سار النبي صلى الله عليه وسلم حينما أذن الله بقيام دولة الإسلام، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بوضع (دستور المدينة)، لكي يحفظ به الحقوق والواجبات بين سكان المدينة بعضهم البعض، وهم حينذاك خليط من المهاجرين والأنصار واليهود سكان المدينة آنذاك.
وتظل هذه سنة الله في البشرية، فلا تستطيع البشرية بدون دستور يحكم علاقاتها، ويحدد حقوق وواجبات أفرادها، والسؤال: ما هي ملامح الدستور الذي ينبغي للمسلم أن يسير عليه؟ أو ما هي مقاصد الدستور الإلهي التي ينبغي أن تكون حاضرة وموجودة في أي دستور بشري وضعي؟
من خلال هذين السؤالين يتضح لنا أن القرآن الكريم- الدستور الإلهي- قد وضع معالم ومقاصد ينبغي لأي دستور بشري أن يسير عليها، ومن هذه المقاصد:
1- الحفاظ على هوية الأمة:
هذه الهوية التي من الله بها علينا، فنحن والحمد لله مسلمون إلهنا واحد، وديننا الإسلام، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الحق- تبارك وتعالى- حكاية عن إبراهيم ويعقوب- عليهما السلام: " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون(132) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت فقال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آباءك إبراهيم وإسماعيل ويعقوب إلهاً واحداً ونحن له مسلمون"[البقرة:133،132]، وقال تعالى:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" [آل عمران: 102].
هذه الهدية والمنة التي حافظ عليها الصحابة والتابعون، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فضحوا في سبيلها بالغالي والنفيس، وصدق فيهم قول الحق -تبارك وتعالى:" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً" [الأحزاب:23]، وقال عنهم: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد" [البقرة:207].
فينبغي لأي دستور بشري أن يحافظ على هوية الأمة، ويحترم قيمها ومعتقداتها وتعاليمها الإسلامية.
2- أن يحافظ على كرامة الإنسان ويحترم إرادته وينمي عقله وتفكيره:
أخبرنا الحق – تبارك وتعالى- أن الإنسان هو خليفة الله في أرضه، فقال تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" [البقرة: جزء من الآية30]، والإنسان هو من أسجد الله له ملائكته " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" [البقرة:34]، وهو الذي نفخ الله فيه من روحه " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" [الحجر:29]، وكرمه الله على سائر خلقه فقال: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" [الإسراء:70]، ومن اجل ذلك أنكر القرآن على بعض المتطرفين من البشر تحريمهم الطيبات وزينة الحياة: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" [الأعراف:32]، وأنكر على بعض البشر إهانتهم لأنفسهم باتخاذهم الطبيعة وقواها المسخرة للإنسان آلهة يعبدونها من دون الله: " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون" [فصلت:37]، وأنكر على بعض البشر أن يفقدوا شخصيتهم، ويصبحوا أذناباً لغيرهم: " وقالوا إنا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا" [الأحزاب:67]، وأنكر على آخرين أن يغلوا في تقديس البشر فيتخذونهم أرباباً من دون الله، يطيعونهم في كل ما يشرعون؛ وإن حرموا الحلال، وأحلوا الحرام: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا الله إلهاً واحداً" [التوبة:31]؟
فهل بعد هذا التكريم يرضى الإنسان بعد ذلك بما يذل به نفسه، وتهان به كرامته، يقول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
فأحرى بالمسلم ألا يرضى بالحرية بديلاً، ولا يرضى عن كرامته سبيلاً.
3- أن ينص فيه على تزكية النفس البشرية:
فلا فلاح في الأولى والآخرة إلا بتزكية النفوس، كما قال تعالى: " ونفس وما سواها(7) فألهمها فجورها وتقواها(8) قد أفلح من زكاها(9) وقد خاب من دساها" [الشمس:من 7:10]، فطريق التزكية هو طريق الفلاح: " قد أفلح من تزكى" [الأعلى:14]، وقال سبحانه فيمن يأتي ربه يوم القيامة: " ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى(75) جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى" [طه:67،75]، ورسالات الأنبياء جميعاً تدعو إلى التزكية، ولهذا رأينا موسى -عليه السلام- حين أرسل إليه من ربه: " هل لك إلى أن تزكى(18) وأهديك إلى ربك فتخشى" [النازعات:19،18]، وكان من الشعب الأساسية لرسالة محمد صلى اله عليه وسلم: التزكية، كما جاء ذلك في آيات أربع من كتاب الله:
منها ما جاء في دعوة إبراهيم وإسماعيل للأمة المسلمة الموعودة: " ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم" [البقرة:129].
ومنها قول الله عزوجل: " كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" [البقرة:151].
وقال سبحانه: " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" [آل عمران: 164].
وقال تعالى: " هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" [الجمعة :2].
والتزكية مشتقة من: زكا يزكو زكاة. وهي كلمة تتضمن معنيين أو عنصرين: الطهارة والنماء.
لذا كانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم مع العرب الأميين ذات شقين:
الأول: تطهير العقول من خرافات الشرك وأباطيله، وتطهير القلوب من قسوة الجاهلية وغلظتها، وتطهير الإرادات من الشهوات البهيمية، والنزوات السبُعية، وتطهير السلوك من رذائل الجاهلية.
والثاني: هو تنمية العقول بالمعرفة، والقلوب بالإيمان، والإرادات بالتوجه إلى عمل الصالحات، والسلوك بالتزام العدل والإحسان ومكارم الأخلاق.
إن الذي لا ريب فيه: أن صلاح الأمم والمجتمعات إنما هو بصلاح أفرادها، وصلاح الأفراد إنما هو بصلاح أنفسهم التي بين جنوبهم، وبعبارة أخرى: بتزكية هذه الأنفس، حتى تنتقل من (النفس الأمارة) إلى (النفس اللوامة) إلى (النفس المطمئنة)، وهذا يحتاج إلى جهاد، ولكنه جهاد غير ضائع كما قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" [العنكبوت:69].
4- تكوين الأسرة وإنصاف المرأة:
من المقاصد التي هدف إليها القرآن الكريم: تكوين الأسرة الصالحة، التي هي ركيزة المجتمع الصالح، ونواة الأمة الصالحة.
فلا يعرف الإسلام الأسرة إلا بين رجل وامرأة، منذ الأسرة البشرية الأولى من آدم وزوجه: " اسكن أنت وزوجك الجنة " [البقرة:35]، فلا يعرف الإسلام ما يدعو إليه المتحللون من الغربيين اليوم من الأسرة الوحيدة الجنس ! بحيث يتزوج الرجل الرجل، والمرأة المرأة، وهذا أمر ضد الفطرة، وضد الأخلاق، وضد المصلحة، وضد الشرائع. وهو للأسف ما حاول مؤتمر السكان في القاهرة(1994) ومؤتمر المرأة في بكين(1995) أن يفرضاه على العالم !!
والقرآن يسمي الارتباط بين الزوجين (ميثاقاً غليظاً) كما في قوله تعالى: " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً(20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم على بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً " [النساء:21،20]، وعبر القرآن عن العلاقة بين الزوجين فقال: " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" [البقرة: جزء من الآية187].
ومن أهداف الأسرة في القرآن: الذرية الصالحة التي تكون قرة العين للأبوين لذا قال تعالى: " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة " [النحل:72]، وكان من دعاء عباد الرحمن: " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً " [الفرقان: 74].
ومن أهم ما جاء به القرآن هنا: إنصاف المرأة، وتحريرها من ظلم الجاهلية وظلامها، ومن تحكم الرجل في مصيرها بغير حق، فكرم القرآن المرأة وأعطاها حقوقها بوصفها إنساناً، وكرمها بوصفها أنثى، وكرمها بوصفها بنتاً، وكرمها بوصفها زوجة، وكرمها بوصفها أماً، وكرمها بوصفها عضواً في المجتمع.
فالمرأة إنسان مكتمل الإنسانية، وهي مساوية للرجل في أصل التكليف، وفي الكرامة الإنسانية، وفي الحقوق الفطرية، وفي الجزاء عند الله، وهي مكرمة إنسانة وزوجة وأماً، قال تعالى: " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض " [آل عمران:195]، وقال تعالى: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " [التوبة:71]، وفي الحديث " إن النساء شقائق الرجال " [رواه أحمد وأبو داود].
5- الدعوة إلى عالم إنساني متعاون:
تقوم العلاقة في هذا العالم بين دوله على الإخوة الإسلامية، والتعاون المشترك لخير الإنسانية، ونشر العدل بين الناس، والسلام العالمي بين البشر أجمعين بدلاً من الحروب والنزاع.
فالإسلام منذ فجر دعوته كان رسالة عالمية، ودعوة للناس كافة، ورحمة لكل عباد الله، عرباً كانوا أو عجماً، ولكل بلاد الله، شرقاً كانت أو غرباً، وإلى جميع الألوان بيضاً كانت أو سوداً فقال تعالى: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " [الأنبياء:107]، وقال تعالى: " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً " [الفرقان:1].
وهكذا ينبغي لأي دستور أرضي بشري أن يكون رسالة خير إلى العالمين، يحمل في مواده قيم الخير والعدل والمساواة للبشرية أجمعين.
6- التسامح مع غير المسلمين:
فأهل الذمة يحملون (جنسية دار الإسلام)، وبتعبير آخر: هم مواطنون في الدولة الإسلامية. ولهذا يسميهم الفقهاء أهل دار الإسلام، إن لم يكونوا أهل ملة الإسلام. وأهلية الدار تعني المواطنة بالتعبير المعاصر.
فليست عبارة أهل الذمة عبارة ذم أو تنقيص، كما يتوهم بعض الناس! بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء، تديناً وامتثالاً لشرع الله.
وإذا كان الإخوة المسيحيون يتأذون من هذا المصطلح، فليغير أو يحذف فإن الله لم يتعبدنا به، وقد حذف سيدنا عمر رضي الله عنه ما هو أهم منه، وهو لفظ (الجزية)، برغم أنه مذكور في القرآن الكريم، وذلك استجابة لبني تغلب من النصارى، الذين أنفوا من هذا الاسم، وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة، وإن كان مضاعفاً فوافقهم عمر، ولم ير في ذلك بأساً، وقال: هؤلاء القوم حمقى، رضوا بالمعنى، وأبوا الاسم !
وقد رأينا الإمام الأوزاعي يقف مع جماعة من أهل الذمة في لبنان ضد الأمير العباسي قريب الخليفة، وقد رأينا ابن تيمية يخاطب تيمور لنك في فكاك الأسرى عنده، فيعرض عليه أن يفك أسرى المسلمين وحدهم فيأبى إلا أن يفرج عن أهل الذمة معهم.
هذه هي بعض المقاصد والأهداف التي احتوى عليها القرآن الكريم، والتي جعلها الحق –تبارك وتعالى- خالدة إلى يوم القيامة، حتى يتعلم منها أهل الأرض، ويسيرون على نهجها المبارك.