إلى المتظاهرين الذين نامت أعينهم عمّا يجري في سورية

إلى المتظاهرين الذين نامت أعينهم

عمّا يجري في سورية

أدفاعاً، أم نفاقاً لرسول الله تتظاهرون؟

د. أحمد أبو النور

اجتمع نفرٌ من كبار المسلمين المثقّفين والأكاديميّين، وتدارسوا تاريخ القرآن الكريم ونصوصه وجمعه وروايته. وبعد تفحّصٍ طويلٍ ومعمّقٍ لسور القرآن، والنظر في تاريخها وترتيبها وعددها، انتهوا إلى قرارٍ خطيرٍ يقضي بحذف سورةٍ واحدةٍ من سوره؛ لينخفض عددها من 114 إلى 113 سورة.

هل تستغربون هذا الخبر، وهل تنكرون عليّ وعلى المجتمعين هذا القرار؟ إذن فاسمعوا ما جرى قبل أيّام في إحدى جلساتنا العامّة.

كنّا في مجلس عزاءٍ بوفاة زوجة أحد الزملاء؛ حين أثير موضوع الإسلام في الغرب، وظاهرة دخول الناس في دين الله أفواجاً، فتحدّثتُ للمشاركين عن عقلانيّة الإسلام ومنطقيّته وبساطته، تلك التي جعلت من الإسلام دين العصر لأنّه دين الواقع، وتحدّثت عن واقعيّة القرآن الكريم في آياته، وواقعيّة نبي الإسلام في قوله وفي عمله، وكيف احتفى القرآن في سورةٍ طويلةٍ كاملة، بأّمّ المسيح عليها وعلى ولدها السلام (سورة مريم)، واحتفى في سورةٍ أخرى أطول منها بعائلة مريم (سورة آل عمران)، بينما لم يرد في القرآن ذكر أيّ فردٍ من أفراد عائلة الرسول (ص)، باستثناء سورةٍ واحدةٍ هي (سورة المسد)، ولكن ليتوعّد تعالى في هذه السورة عمّ رسول الله (أبا لهب) وزوجته (حمّالة الحطب) بأشدّ العقاب لإيذائهما رسول الله (ص).

ثمّ تحدّثت عما أخبر به النبيّ الكريم، بالمقابل، عن والديه هو، مؤكّداً لنا أنّ أباه عبد الله في النار وأنّ أمّه كذلك في النار.

لم يخبرنا بهذا موسى، ولم يخبرنا بذلك المسيح، على كليهما الصلاة والسلام، ولم يتقوّل هذا على النبيّ بعض من عاداه من العرب أو الأعاجم، بل أكّد لنا هذا، وفي أكثر من مناسبةٍ وأكثر من حديثٍ صحيح، الصادقُ الأمين نفسه، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وأيّ هوىً يمكن أن يجعله يقول لأتباعه، وللعالم كلّه من بعدهم، مسلمين وغير مسلمين: أيّها الناس، إنّ مصير أبي وأمّي النار؟

إنّه، بصدقه وبشريّته وبساطته، وقبل ذلك كلّه: بتواضعه، وبشعوره بأمانة النبوّة التي شرّفه الله بها، لم يتردّد في إخبارنا بمآل والديه، وكم كان يودّ، وهو الرؤوف الرحيم، والبارّ بأمّه وبأبيه وبقومه وبأمّته، لو لم يكن مصيرهما كذلك. أفلم يستأذن ربّه في أن يستغفر لأمّه فلم يأذن له؟ أوَلم يبك على قبرها حين مرّ به بين مكّة والمدينة بكاء الابن المحبّ لها؛ المشفق على مصيرها:

استأذنتُ ربّي أن أستغفرَ لأمّي فلم يأذنْ لي، واستأذنتُه أن أزورَ قبرَها فأذِنَ لي [رواه مسلم، عن أبي هريرة]

كنّا مع النبيّ (ص) في سفر، وفي رواية: في غزوة الفتح، فنزل بنا – أي توقّف – ونحن معه قريبٌ من ألف راكب، فصلّى ركعتين، ثمّ أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب ففداه بالأب والأمّ يقول: يا رسول الله، مالك؟ قال: إنّي سألت ربّي عزّ وجلّ في الاستغفار لأمّي فلم يأذنْ لي، فدمعتْ عيناي رحمةً لها من النار، واستأذنتُ ربّي في زيارتها فأذن لي، وإنّي كنت نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولْتَزِدْكم زيارتُها خيراً [صحّحه الألباني في إرواء الغليل، وبعضه على شرط الشيخين، عن بُريدة بن الحُصيب الأسلمي]

ولم يكن إشفاقه لمصير عمّه أبي طالب، وقد رعاه لعقودٍ من السنين رعاية الأب لولده، بأقلّ من إشفاقه وحرصه على أمّه، وها هو يراه يودّع الدنيا قبل أن يردّد الكلمة التي تنجيه من النار:

يا عمّ! قلْ: لا إله إلا اللهُ، كلمةٌ أشهدُ لك بها عند اللهِ، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بن أبي أميةَ: يا أبا طالبٍ، أترغبُ عن ملّةِ عبدِالمطلبِ؟ فلم يزلْ رسولُ اللهِ (ص) يعرضُها عليه ويعيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخرَ ما كلّمهم: هو على ملّةِ عبدِ المطلبِ، وأبى أن يقولَ لا إله إلا الله. فقال رسولُ اللهِ (ص): أما واللهِ لأستغفرنّ لك ما لم أُنهَ عنك، فأنزل اللهُ عزّ وجلّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، وأنزل اللهُ تعالى في أبي طالبٍ فقال لرسولِ اللهِ (ص): {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] [متفق عليه، عن المسيّب بن حزن]

تُرى، لو أراد رسول الله (ص)، أو أراد منه تعالى، أن يخفي علينا حقيقة أنّ والديه في النار، هل كان سيمنعه شيء؟ ولو حدث أن اضطرّه ظرفٌ خاصٌّ واستثنائيٌّ إلى أن يصرّح بذلك علناً، ولا ينبغي أن يقع ذلك لرسولٍ لا ينطق عن الهوى، فلماذا يصرّ على أن يذكر هذا مرّةً ثانيةً وثالثةً ورابعة، في مناسباتٍ مختلفة، وفي أحاديث عدّةٍ يقوّي منها الصحيحُ الضعيفَ؟

عن أنسٍ "أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله، أين أبي؟ قال: في النّار، فلمّا قفّى – أي انصرف – دعاه، فقال: إنّ أبي وأباك في النّار [رواه مسلم]

جاء ابنا مُلَيكة إلى النبيّ (ص) فقالا: إنّ أمّنا كانت تُكْرمُ الزوج، وتعطف على الولد، وتُكرِم الضَيف، غير أنّها وَأدت في الجاهليّة، قال: إنّ أمَّكما في النار. فأدبَرا والسوءُ في وجهيهما، فأَمَر بهما، فرجعا والسرورُ يُرى في وجوههما، رجَيا أن يكونَ قد حدث شيءٌ، فقال (ص): أمّي مع أمّكما" [رواه أحمد وابن كثير والبزّار وأبو نعيم، عن عبد الله بن مسعود]

وعن عمران بن حُصينٍ أنّ أباه أتى النبيّ (ص) فقال: "أرأيتَ رجلاً (أي ما قولك به) كان يَقري الضيف، ويصل الرحِم، كان قبلك، وهو أبوك؟ (يعيّره بأنّ أباه لم يكن مسلماً فهو إذن في النار). قال النبيّ (ص): إنّ أبي وأباك وأنت في النار. فمات حصين مشركاً" [رواه الطبرانيّ، والهيثمي في مجمع الزوائد]

بل إنّ ما يزيد هذه الروايات كلّها موثوقيّةً أنّنا لا نجد له (ص) أحاديث أخرى، صحيحةً أو حسنةً أو ضعيفة، تناقضها أو تنفيها أو تجعلنا نتردّد في قبولها والتسليم بما فيها.

رغم كلّ هذا وذاك؛ يصرّ بعض المسلمين، ممن يحبّون الرسول (ص) حقاً، ويدافعون عنه بصدق المحبّ، وحماسة المؤمن العاشق لنبيّه، على أن يحذفوا هذه الأحاديث من خريطة السيرة النبوية، لأنهم يعدّونها، رضوا أن يصرّحوا بهذا أم لم يرضوا، نيلاً من الرسول (ص) وتجريحاً له ولأسرته ولبيته.

لو قلت لكم اليوم إن فلاناً الأستاذ في الجامعة قد جاء إلى جامعته على الدرّاجة لأنه لا يملك سيارة، فهل في ذلك إهانةٌ للأستاذ؟ إنّه بالأحرى رفعٌ لشأنه، وإعلاءٌ لمكانته، واحترامٌ لبساطته وثقته بنفسه، وتقديرٌ لتواضعه وحرصه على عدم الترفّع عن الناس العاديين والفقراء. ولكنها ستتحوّل إلى إهانةٍ حقاً لو وقف أحدكم معترضاً وقال: لا، لا يمكن أن يأتي الدكتور فلان على الدراجة، فلا يليق بأستاذٍ كبيرٍ مثله ألاّ يملك سيّارة..

لا تنافقوا الرسول الكريم، بل لا تهينوه. لقد كان حريصاً في كلّ سيرة حياته على أن يكون نبيّاً "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق" كما وصفه تعالى، وألاّ يعلو بنفسه ولا بأسرته عن مستوى الآخرين، هكذا كان يؤكّد للناس في كلّ مناسبة، بعيداً عن عقَد النقص التي تختبئ في صدور الكثيرين منّا:

- أتى النبيَّ (ص) رجلٌ فكلّمه فجعل تَرعُدُ فرائصُه، فقال له: هوّن عليك، فإنّي لستُ بملِكٍ، إنّما أنا ابنُ امرأةٍ من قُريش تأكلُ القديد [ رواه ابن ماجه وصحّحه الألباني، عن أبي مسعود البدريّ]

- إنّي فيما لم يُوْحَ إليَّ كأحَدِكم [رواه الطبرانيّ وابن شاهين، والهيثمي في مجمع الزوائد، عن معاذ بن جبل]

- إذا كان شيءٌ مِن أمرِ دنياكم فأنتم أعلمُ به، وإذا كان شيءٌ من أمرِ دينِكم فإليّ [صحّحه الألباني في صحيح الجامع، عن عائشة]

- لا ترفعوني فوق حقّي فإنّ الله اتّخذني عبداً قبل أن يتّخذني رسولاً [رواه الطبرانيّ، عن الحسين بن عليّ]

وما هذه التأكيدات إلاّ من روح القرآن الذي أكّد باستمرار على بشريّة الرسول (ص) مثلما حذّر من المبالغة في حبّه، مبالغةً قد تصل بنا إلى ما وصلت به عند بعض الأمم من تقديسٍ لأنبيائها ورفعهم فوق مستوى البشر:

"وما محمّدٌ إلاّ رسولٌ قد خلَتْ مِن قبلِه الرُسُل" [آل عمران: 144]

"قلْ ما كنتُ بِدعاً من الرُسُلِ، وما أدري ما يُفعَلُ بي ولا بكم، إنْ أتّبعُ إلاّ ما يُوحى إليّ، وما أنا إلاّ نذيرٌ مُبين" [الأحقاف: 9]

"وقالوا ما لِهذا الرسولِ يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواق، لولا أُنزِلَ إليه مَلَكٌ فيكونُ معه نذيراً. أو يُلقَى إليه كنزٌ أو تكونُ له جَنّةٌ يأكلُ منها... وما أرسلنا قبلَكَ من المرسَلين إلاّ إنّهم لَيأكلون الطعامَ ويمشون في الأسواقِ" [الفرقان: 7 ـ 20]

"يا أهلَ الكتابِ لا تَغلُوا في دِينِكم ولا تقولوا على اللهِ إلاّ الحقَّ، إنّما المسيحُ عيسى بنُ مريمَ رسولُ اللهِ وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه" [النساء: 171]

حين ننكر على رسول الله (ص) تواضعه، وهو يخبرنا أنّ والديه قد وُلدا وماتا على شركهما وأنّهما في النار، فإنّنا نَصدر في هذا الإنكار عن جاهليّتنا واستكبارنا، أمّا هو فيَصدر في إعلان ذلك، وفي الإصرار على التصريح به أكثر من مرّة، عن حقيقته النبويّة، وتواضعه البشريّ، وصدقه وأمانته في أداء الرسالة، وشتّان بين ضعفنا وقوّته، وبين عُقَدنا وبساطته، وبين استكبار جاهليّتنا وتواضع إسلامه.

لقد خَصّصت لهذا الموضوع إحدى خطب الجمعة، ولمحت في وجوه المصلّين العجب والاستغراب والاستنكار وأنا أحدّثهم عن تلك الجلسة الافتراضيّة التي اقترح فيها المجتمعون تخفيض عدد سور القرآن الكريم، فما لبثت أن طمأنتهم إلى أنّ ذلك لم يكن إلاّ مثلاً أردت أن أجسّم فيه موقف بعض المسلمين وهم يحاولون الدفاع عن والدَي رسول الله (ص) فينكرون علينا وعلى الرسول الكريم ما يخبرنا به هو نفسه عن مصير والديه، فكأنّهم بموقفهم هذا ينكرون أيضاً على القرآن الكريم أن يخصّ عمّ نبيّنا (ص) "أبا لهب" وزوجته "حمّالة الحطب" بسورةٍ كاملةٍ تلعنهما وتتوعّدهما بعذاب النار.

قلت هذا للناس وأنا لا أدري أنّ مفاجأةً تنتظرني عند الباب وأنا أهمّ بالخروج من المسجد، حين اقترب منّي أحدهم ليُسرّ إليّ قائلاً: فكيف لو عرفت أن بعض من استمعوا إلى حديثك في مجلس العزاء تلك الليلة قد أنكر عليك أشدّ الإنكار ما قلت، بل زعم أنّ عمر بن الخطّاب (ر) سمع رجلاً يقرأ في صلاته (تبّت يدا) فقال لرجلٍ بجانبه: قم إلى هذا الذي يقرأ (سورة المسد) واقطع رأسه!!

أوليس في هذا الذي يردّده هؤلاء من أقاويل وتهاويل اقتراحٌ فاضحٌ بحذف إحدى سور القرآن الكريم من القرآن الكريم؟

إنّ من يكذّب الأحاديث الصحيحة، ويحاول أن يرتفع بنبيّنا العظيم، وبأسرته كذلك، إلى ما فوق مستوى البشر، خلافاً لما يؤكّده لنا بنفسه، ستقوده هذه الطريق في النهاية إلى التطاول على القرآن الكريم نفسه وتكذيب بعض سوَره، ثمّ يصرّ على أن يسمّي هذا إسلاماً وحبّاً ودفاعاً عن رسول الله..

أمّا أنا فأسمّيه جاهليّةً وتضليلاً ونفاقاً لرسول الله (ص).

كيف نفسّر إذن تلك المظاهرات العارمة التي اجتاحت العالم العربيّ والإسلاميّ، وسقط فيها عشرات القتلى والجرحى من المسلمين، في صداماتٍ مع رجال الشرطة، المسلمين أيضاً، احتجاجاً على فيلمٍ تافهٍ أساء إلى الرسول (ص)، في الوقت الذي يشاهدون فيه بأعينهم كلّ يوم، وعلى عشرات الشاشات الفضائيّة، الإهانات التي توجّه إلى الإسلام، وإلى نبيّ الإسلام، وإلى إله المسلمين، وفي بلدٍ إسلاميٍّ، هناك حيث تُداس المصاحف، وتُقصف المآذن والقباب على رؤوس المصلين، وحيث يجبرون الناس على السجود لصورة طاغية، ويدفنون المسلمين أحياء، ويقطعون أعناقهم بالسكاكين، وينشرون رؤوسهم وأجسادهم بالمناشير الكهربائيّة إذا رفضوا أن يردّدوا عالياً، ومرّاتٍ عديدة: (لا إله إلا بشار).

ترى لو أن أعداء الله قصفوا غداً بيت الله الحرام بصاروخٍ فهدموا الكعبة؛ فكيف سيكون حجم المظاهرات والاحتجاجات وعدد القتلى والجرحى؟ حتماً لا وجه للمقارنة، ومع ذلك فإنّ هذا الرسول الذي يتظاهرون احتجاجاً على الإساءة إليه يقول لهم حرفيّاً:

- لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من قتل المسلم [رواه الشوكاني في الفوائد المجموعة والصعدي في النوافح العطرة]

بل إنّه يوسّع هذا الحكم في حديثٍ آخر ليشمل زوال العالم كلّه، وليس الكعبة وحدها، بل يعمّم الحكم على قتل كلّ مظلومٍ على وجه البسيطة، بغضّ النظر عن عقيدته أو دينه:

- لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دمٍ يُسفك بغير حق [صحّحه الألباني في صحيح الترغيب، عن البراء بن عازب]

نقف صامتين خرساً أمام إجبار الناس على الشرك والسجود لغير الله، ونغضّ الطرف عن إهانة المصاحف، ونتعامى عن قصف المساجد والمآذن على رؤوس المصلّين، وندير رؤوسنا عن ذبح المئات في كلّ يومٍ بالسكاكين والمناشير والقنابل والصواريخ، ثم نتظاهر في الشوارع، ليس احتجاجاً على هدم الكعبة، ولا على زوال الدنيا بما فيها، بل على فيلمٍ، بل مشروع فيلمٍ سخيف، وضعه رجلٌ أميٌّ سخيف، في موضوعٍ مقزَّزٍ سخيف، وأين؟ في بلدٍ لا علاقة له بالإسلام أو بالمسلمين، ثمّ ندّعي أنّنا نفعل هذا دفاعاً عن رسول الله..

كيف نجرؤ على الوقوف أمام رسول الله (ص) لو أنّه واجهنا بالجرم المشهود، ونحن نتظاهر ونقاتل ونَقتل أو نُقتل من أجل هذا الفيلم، متجاهلين ما أوصانا به من أن دماء المسلمين تأتي أوّلاً، ثم يأتي بعدها هدم الكعبة، بل زوال الدنيا بما فيها، ثمّ يأتي بعد بعدها أيّ شأنٍ آخر من شؤون الإسلام والمسلمين، مهما عظُم هذا الشأن؟

ماذا سيقول لكم نبيّكم، أيها "المتظاهرون" بحبّه، حين تهدرون دماءكم وأرواحكم وأرواح رجال الشرطة معكم، وربّما كان منهم المؤمن والتقيّ والورع، احتجاجاً على أن أسيء إليه مرّةً، ثمّ تسكتون كالشياطين الخرس عن مئات الشتائم والإساءات التي توجَّه إليه وإلى ربّه وربّكم كلّ ساعة، وعن مئات الضحايا التي تسقط كلّ يوم على أرض الشام؟

ألا يفسّر سكوتكم هذا، وتفرّجكم على شلاّلات الدماء في سورية وأنتم كالأصنام التي خلت قلوبها من الإحساس والإنسانيّة والإيمان، بأنّه دليل رضاكم على ما يجري هناك، بل دليلٌ على مشاركتكم في آثام أولئك المجرمين؟ أتريدون أن تسمعوا حكم الله فيمن يسكت عن، أو يرضى بقتل مسلمٍ واحد؟ إذن فاسمعوا حكمه:

- لو أنّ أهلَ السمواتِ والأرضِ اجتمعوا على قتلِ مسلم؛ لكبَّهم اللهُ جميعاً على وجوههم في النار [صحّحه الألباني في صحيح الترغيب، عن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي]

- والذي نفسي بيده، لو أجمعَ على قتلِ مؤمنٍ أهلُ السماءِ وأهلُ الأرض، ورَضُوا به، لأدخَلهم اللهُ جميعاً جهنّم [رواه ابن حبّان، عن أبي سعيد الخدريّ]

إن لم يكن سكوتكم على ما يجري في سورية علامةً على المشاركة والرضى والتشجيع للقاتلين على القتل، وللظالمين على الظلم، وللكافرين على الكفر، في الوقت الذي يجدكم العالم فيه مندفعين للخروج بالآلاف إلى الشوارع، ومواجهة أسلحة رجال الشرطة باحتجاجاتكم متظاهرين "بالدفاع عن رسول الله"، فعلى أيّ شيءٍ يدلّ هذا السكوت إذن؟

إن لم يكن ذلك نفاقاً لرسول الله، ومخالفةً صريحةً لتحذيراته، بل نقضها تماماً والعمل بعكسها، فكيف يكون النفاق؟

حين يصف هؤلاء ما أخبرنا به رسول الله (ص) عن والديه بأنه إهانةٌ لرسول الله، فإنّهم في الحقيقة يوجهون الإهانة إلى الرسول، متّهمين إيّاه بالعقوق، ويوجّهونها إلى القرآن متّهمين إيّاه بالإجحاف بحقّ خاتم الرسل وحقّ أسرته، ويوجّهونها إلى من أنزل القرآن متّهمين له بشتم عمّ نبيّنا الكريم في سورةٍ كاملةٍ من كتابه الكريم..

ما الفرق في هذه الحال بينهم وبين ذلك الذي أدار على رأسه عِمّةً، ثمّ وقف على أحد المنابر، وسط جمهورٍ كبيرٍ من أتباعه، غير متهيّبٍ من الله، ولا من آل البيت، ولا من العمّة التي يدّعي أنّها تنسبه إلى آل البيت، ولا من عشرات العدسات التي تحيط به وتنقل محاضرته تباعاً على الإنترنت، ليصرّح بوقاحةٍ لا يمكن أن تصدر عن مسلمٍ عاديّ، فضلاً عن أن يكون من آل البيت: إنّ القرآن يقول عن مريم: (إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين). عجيب!! فأين ذهبت إذن سيّدتنا فاطمة الزهراء؟!

أليست هذه قحةً مع الله؟ أتزاودون على الله وعلى رسول الله وتريدون أن تُملوا آراءكم وتجديفاتكم ونفاقكم على القرآن وعلى منزل القرآن وعلى من حمل إلينا أمانة القرآن؟

"بشريّة" الرسول (ص) هي التي جعلت الناس في الماضي، وتجعلهم في الحاضر، يلتفّون حول الإسلام، ويلتفّون حول شخصية الرسول (ص) ويحبّونه ويدافعون عنه، فلا تشوّهوا هذه الواقعيّة البشريّة التي هي سرّ سحر الإسلام وجاذبيّته. إنّها ليست بشريّة العجز والضعف والخطيئة والفساد، بل بشريّة الطهارة والنقاء والثقة المتناهية بالنفس، تلك التي تستمدّ قوّتها من السماء، فلا يهمّها بعد ذلك ما يقول عنها أهل الأرض.

هذه الثقة هي التي جعلت محمّداً (ص) يرفع من شأن المسيح، حين كانت المسيحيّة مع بدء الدعوة، وما تزال، أهمّ منافسٍ للإسلام، وجعلته يرفع من شأن أمّ المسيح وأسرة أمّه (آل عمران)، بل جعلته يرفع من شأن أمّة المسيح أيضاً، رفعاً لا يمكن أن يأتي من منافسٍ نحو منافسه؛ إلاّ أن يكون من نطق بهذا نبيّاً حقيقيّاً يملك الثقة المطلقة بالدعم والتصديق الإلهيّين.

إنّ النبيّ الذي يؤكّد لنا أنّ أمّه وأباه في النار؛ هو نفسه الذي يؤكّد لنا في الكتاب الذي حمله إلينا من ربّه أنّ الله تعالى قد حجز لأمّ المسيح، عليها وعلى ولدها السلام، المركز الأوّل بين نساء البشر، أبى من أبى ونافق من نافق:

- وإذ قالتِ الملائكةُ يا مريمُ إنّ اللهَ اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نساءِ العالَمين [آل عمران: 42]

نعم، هكذا: "على نساء العالمين". فبعد نزول تلك الآية لم يعد من حقّ أيّ كائن بشريّ، بمن فيهم الأنبياء، أن يدّعي لأمّه أو أخته أو زوجته أو ابنته، أو أيّة امرأةٍ أخرى في العالم، مركزاً ينافس هذا المركز الذي اختصّت به سيّدتنا مريم، ومريم وحدها بين نساء العالمين.

وبمثل هذه الثقة السماويّة المتناهية يضع الرسول (ص) أخاه المسيح وأمّه عليهما السلام في مركزٍ من النقاء البشريّ لم يدّعِ أنّه هو نفسه قد ناله، فيؤكّد للمسلمين، والدعوة ما تزال تجاهد للبقاء أمام منافسها الأكبر: المسيحيّة، أنّ الله قد جعل للشيطان نصيباً في كلّ كائنٍ بشريّ، فيمسّه ساعة ولادته، ماعدا كائنين اثنين لا ثالث لهما: المسيح وأمّ المسيح:

- عن أبي هريرة (ر) قال: قال رسول الله (ص):"كلّ بني آدمَ يمسُّه الشيطانُ يومَ ولَدتْه أمُّه، إلاّ مريمَ وابنَها" [رواه مسلم]

وبثقةٍ أكثر تناهياً وأشدّ خطورةً يعلن نبيّنا الكريم (ص) أنّ أمّته الإسلاميّة، مهما كبرت، ومهما تزايد عدد أبنائها، ومهما امتدّت آفاق البلاد التي ستحكمها، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، كما وعدها هو نفسه في أحاديث عديدة، وكما أثبته التاريخ بعد ذلك حقاً، سيبقى عددها، مع ذلك، دون عدد أبناء أمّة المسيح عليه السلام حتّى يوم القيامة:

- تقومُ الساعة ُوالرومُ – أي النصارى – أكثرُ الناس [رواه مسلم، عن موسى بن عليّ عن أبيه]

إنّهم يكذّبون الله حبّاً بالنبيّ، ويكذّبون القرآن حبّاً بالنبيّ، ويكذّبون النبيّ حبّاً بالنبيّ، ثمّ يدّعون بعد ذلك أنّهم يتظاهرون دفاعاً عن النبيّ، وهم يرون بأعينهم إلى مبادئ النبيّ، ووصايا النبيّ، وتحذيرات النبيّ، تداس بالأقدام. فأيّ نوعٍ من الحبّ هذا؟ وإلى أين وصلوا بإنسانيّتهم وبعقيدتهم وبإسلامهم؟

أوَأنتم نبويّون أكثر من النبيّ؟ إذن لا تصفوه بأكثر مما وصف به نفسه، ولا تصفوا أبويه بأكثر مما وصفهما به، ولا تكيلوا له الاتهامات وأنتم تظنّون أنكم تدافعون عنه، ولا تنالوا منه وأنتم تدّعون أنّكم ترفعون من قدره بين البشر، ولا تتجاهلوا أوامره وتحرّفوا تحذيراته وأنتم تصرّون على أنّكم أتباعه وأصفياؤه وأحبّاؤه.

اللهمّ علّمنا حبّ نبيّك؛ بالطريقة التي ترضاها ويرضاها نبيك، وعلّمنا حبّ كلّ من يحبّ نبيّك؛ بالطريقة التي ترضاها ويرضاها نبيّك.