المعارضة .. من الشعوذة إلى التنجيم
د. حازم نهار
لعل أهم أدوات الجزء الأكبر من المعارضة السورية في الممارسة السياسية كانت خلال الفترة الماضية هي الشعوذة، السلبطة، الجعارية، السبحانية، التنجيم.
مارست معظم شخصيات المعارضة "الشعوذة" خلال عشرين شهراً من عمر الثورة، والتي تجلت في إدعاءات البطولة الفارغة والمبالغة، بل والكذب أحياناً، كأن يأخذك المرء "بالعبطة" ويرهقك بالحديث عن قدراته وصلاته الخارجية، وعن كتائبه ومجموعاته العاملة على الأرض التي تتحرك بإشارة من إصبعه أو عن مساهماته الفاعلة في الثورة تمويلاً وتحريكاً، أو في ادعاءات السبق في تحريك التظاهرات والاحتجاجات.
كما أتقنت هذه الشخوص أيضاً لعبة "السلبطة"، خاصة عندما فرضوا أنفسهم في هيئات ومجالس وائتلافات المعارضة زوراً وبهتاناً، فهم كما يقال "لا يعرفون الخجل" وغير مستعدين للنظر إلى أنفسهم في المرآة كي يراجعوا أخطاءهم، فكانوا كالأطباء الفاشلين الذين يتعلمون بأرواح البشر. هؤلاء "المتسلبطون" على المهنة كما يقال لا يوجد رصيد سياسي لديهم سوى عدد من المقابلات مع الفضائيات التي بتنا نعرف كيف يصلون إليها، وكانت إطلالاتهم مسيئة ومثيرة للبؤس ولم تقدِّم أي فائدة حقيقية. ولا ننكر أن لبعضهم عددٌ من سنوات الاعتقال التي قضوها ويقع علينا واجب احترام هذه التضحية بالتأكيد، لكنهم يتعاملون بطريقة كمن يريد ثمن هذه التضحية اليوم بأي طريقة كانت، مع الانتباه إلى أن صفة "المعتقل السياسي" لا تدل بالضرورة على الفهم أو الكفاءة، وفي بعض الأحيان كانت صفة حازوا عليها صدفة بفضل نظام أهوج لم يكن يميز في اعتقاله، أو كانت تعبيراً عن "الحيونة" أكثر مما هي تعبير عن الشجاعة، فيما نحن بحاجة على الدوام للجمع مابين الحكمة والشجاعة الأصيلة.
أما "الجعارية" فكانت هي اللحن الدائم للعديد من تلك الشخصيات التي كانت ولا زالت مقتنعة، على ما يبدو، بأن معدل المعارضة في الدم يقاس بنبرة الصوت العالي، وأن الصراخ والمطالبة "الفاجرة" بشيء ما يحوِّله تلقائياً إلى واقع، كمطالبة دول العالم بالتدخل أو تزويدنا بالسلاح. ولا يخلو الأمر هنا من الابتذال الرخيص الواضح الذي يظهر في كل حديث ونفس، وكأن لسان حال "الجعاري" يقول للسوريين: "انظروا كم أنا معكم...انظروا إلي فأنا أفضل الموجودين وأفعل كما تطلبون مني".
أما "السبحانية" فهي بادية في كل حركة وفعل، إذ لا يوجد خطة ولا ترتيب للأولويات ولا حساب زمني ولا علاقات مدروسة ومحسوبة ولا بوصلة سياسية واضحة ولا مراجعة للتجربة، وتترك كافة أمور الثورة والبلد على "التجلي" أو انتظار هطول الأمطار بفضل رب العالمين.
اليوم يضاف لهذه الآليات طريقة "التنجيم" في التحليل السياسي، فأحدهم مثلاً يشعر أن النظام سيسقط بتاريخ 12/12/2012 وليس لديه أي معطيات واقعية، وكل ما هنالك أن هذا التاريخ قد أعجبه، بما يوحي أن التفكير "السحري" له نصيبٌ وافرٌ في عقله، وآخر عندما يسمع أن الجيش الحر دمر عربة ما للنظام يخرج علينا ويعطينا انطباعاً بأن النظام ساقط خلال ساعات، وأي سلوك للنظام يُفسَّر على الدوام أنه دليل على اقتراب موعد الانهيار، فيما تكون أسبابه الحقيقية غير ذلك أو لا زالت مجهولة على أقل تقدير. هنا يمكنني القول إن جدتي التي لم تغادر منزلها لديها قدرة على التحليل السياسي أفضل بكثير من هذه المعارضة المبجلة.
الغريب أن هذه الصفات تطال المعارضين المقيمين في الخارج أكثر من غيرهم، بما يوحي أنهم لم يستفيدوا من وجودهم خارج سورية ولا من آليات التفكير الحديث، وتخثرت إمكانياتهم الذهنية والنفسية عند لحظة معينة لا يستطيعون مغادرتها.
في الحقيقة إذا ترك الصراع لمجرياته العسكرية وحسب أستطيع القول إن الصراع طويل، وسيستغرق سقوط النظام وقتاً طويلاً لا نستطيع تحديده، وسيكون ما هو قادم أعظم وأمر وأصعب. لكن المؤكد أن النظام ما عاد قادراً على الحياة والاستمرار، وسيسقط بالتأكيد في المآل تاركاً البلد بأوضاع في غاية الصعوبة والخطورة ومفتوحة على احتمالات عديدة، وهذه تتطلب التفكير والعمل الجاد من أجلها من الآن.
بالطبع تحدث في السياسة مفاجآت وصدف وأحداث خارج سياق تحليل الوقائع والمعطيات وموازين القوى، فاغتيال شخصية ما مثلاً يمكن أن يغيِّر المسارات، لكن لا يمكن للتحليل السياسي أن يركن إلى الصدف واحتمالاتها وحسب، فعندما تصبح الممارسة السياسية مرتكزة وحسب على افتراض إمكانية وقوع الصدف سنكون أمام مصيبة حقيقية، لأن اعتماد هذه الآلية لا يعني إلا استقالتنا وبقاءنا في ساحة الانتظار وعجزنا عن العمل الجاد الذي يغيِّر في موازين القوى ويقربنا من الهدف.